خلال ثلاث ساعات فقط من الحوار المفتوح والصريح استطاع الرئيس حسني مبارك أن يضع المثقفين والكتاب المصريين في الصورة ويصل بهم إلى درجة كبيرة من وضوح الفكر ومعرفة توجهات السياسة العليا بالنسبة للقضايا الحساسة التي تهم الرأي العام.. وبطريقته البسيطة التلقائية التي تنفذ في قلب مستمعيه لأنها تعبر عن الحقيقة بصدق دون مواربة أو تلاعب بالألفاظ استطاع الرئيس أن يزيل من الأذهان بعض ما كان فيها من مخاوف وهواجس وتساؤلات حائرة ولا تجد الإجابات الصحيحة المقنعة.
إن نتائج هذا الحوار الذي وقف فيه الرئيس رغم مشاغله ثلاث ساعات ليستمع ويجيب تدفعنا إلى التساؤل: ماذا يحدث لو أن رئيس الوزراء عقد لقاءات مماثلة – بنفس الروح – لكي يناقش الأفكار والقضايا التي تشغل المثقفين، ويجيب على تساؤلاتهم أولاً بأول، ويطلع هو أيضاً على اتجاهات الرأي العام مباشرة دون وسائط قد تخطئ وقد تصيب في رصد وتحليل اتجاهات الرأي العام.. وماذا يحدث لو أن كل وزير التقى بالمثقفين والكتاب في مثل هذا الحوار.. وفعل ذلك كل محافظ مع المثقفين في محافظته.
ماذا يحدث..؟
سوف تتحقق درجة عالية من "وضوح الفكر" يصل فيها المثقفون إلى معرفة الموضوعات التي تشغل القيادة .. وكيف تفكر فيها .. وتطرح القيادة ما لديها من أفكار ومشروعات للمناقشة لتختبرها وتستمع إلى الآراء المختلفة حولها، وبذلك لا تجد الشائعات فرصة للنمو والانتشار، ولا يجد "غربان الحياة السياسية" فرصة لترويج الأكاذيب والمخاوف المختلفة التي ليس لها أساس.. ونستعيد حيوية الحياة السياسية.. ونجدد عادات البحث وتحري الحقيقة قبل إصدار الأحكام.. ونكتسب عادة التأني قبل إلصاق التهم بالآخرين وإدانتهم بالظنون والشبهات دون سؤال عن الحقيقة وسماع من لديه معلومات صحيحة عنها.
ولابد أن نعترف أن إحدى مشاكل المثقفين في مصر هي نقص المعلومات.. وأسوأ منها تضارب المعلومات.. وعلى سبيل المثال فإن أحداً لا يعرف حتى الآن عدد الشركات التي تقرر بيعها، رغم أن مجلس الوزراء اتخذ فيها قراراً، إلا أن الصحف صدرت بعد اجتماع المجلس وفيها تصريحات لعدد من المسئولين ذكر كل منهم رقماً مختلفاً عن الآخر، فقال البعض إن عدد هذه الشركات 49 وقال آخر إنها 46 وقال ثالث إنها 56، وهذا مثال بسيط ولكنه يكفي لتوضيح أهمية وصول المعلومات الصحيحة.
وبالإضافة إلى ذلك هناك مشكلة تعارض التصريحات بين المسئولين حول موضوع من الموضوعات الحساسة التي تمس حياة المواطنين في المرتبات.. أو العلاوات.. أو مد السن لمن وصلوا إلى الستين من رؤساء شركات قطاع الأعمال أو عدم المد والاستعانة بعناصر من الشباب.. وآخر مثال تضارب التصريحات حول اتجاهات مشروع القانون الجديد الذي مازال في مرحلة البحث لتعديل أوضاع السكان والملاك في المساكن القديمة، وهو موضوع يمس مباشرة أمن واستقرار ملايين المواطنين.. تصريح يقول إن الامتداد القانوني سيقف عند الزوجة فقط .. وتصريح آخر يقول إنه سيصل إلى الأبناء وينتهي التعاقد.. وتصريح ثالث يقول إن أوضاع المساكن القديمة ستظل خاضعة للقانون الذي أبرمت العقود في ظله باعتبار أن هذه أوضاع ومراكز قانونية استقرت وليس من السهل هزها، ويكفي تحريك الإيجارات ينسب يحتملها السكان وتحقق للملاك العدالة.. وكل تصريح من هذه التصريحات له ردود أفعال مختلفة بين ملايين السكان والملاك، ومع تعدد التصريحات من الرسميين لابد أن تحدث البلبلة ثم لا يجد المسئولون تبريراً إلا القول بأن هذه مؤامرة عليهم بسوء نية.. ولو أن المسئولين اكتفوا في هذه المرحلة بالاستماع إلى الخبراء، والتعرف على مختلف الآراء واتجاهات الرأي العام، وتوقفوا عن إبداء آرائهم إلى أن تتبلور الدراسات في مرحلة يمكن عندها طرح ما توصلت إليه للحوار العام.. لكان ذلك أفضل جداً.
كذلك فإن هناك قضايا وأمور لا تستطيع الدولة وحدها أن تحقق أهدافها بالنسبة لها.. وهي محتاجة إلى الجهود الشعبية، ولكي يتحرك الناس مع الدولة لابد أن تكون الأهداف والمشروعات وخطوات العمل واضحة تماماً أمامهم.
في لقاء الرئيس على سبيل المثل اتضحت سياسة الدولة بالنسبة لعملية بيع عدد من شركات القطاع العام، على أن ذلك جزء من الإصلاح الاقتصادي واستمرار خسائر القطاع العام تزيد الأعباء على الدولة، وتهدد مدخرات المواطنين في البنوك، ويصعب معها توفير الأموال اللازمة لإقامة مشروعات جديدة للتنمية واستكمال البنية الأساسية، واقتنع الجميع أن الدولة بكل مستوياتها على وعي بألا تكون الخصخصة باباً لسيطرة رأس المال الأجنبي، وأن حق الأجانب في تملك الأراضي الزراعية ليس مطلقاً ولكنه مقيد بموافقة مجلس الوزراء على كل حالة على حدة، وبصدور قرار جمهوري.. وهذه ضمانات تطمئن إلى أن محاذير تملك الأجانب للأراضي والأصول الوطنية مراعى فيها دائماً البعد القومي والمصالح وسلامة المستقبل.
وفي اللقاء تبدد ضباب كثير كان يحيط ببعض العقول نتيجة كتابات متسرعة وغير مسئولة عن بيع كل البنوك وشركات التأمين..وأيضاً انتهى سوء الفهم حول إلغاء القانون 93 لسنة 95 وحول مشروع القانون الجديد للصحافة الذي يجري إعداده ويوشك على الانتهاء في اللجنة المشكلة لذلك في المجلس الأعلى للصحافة.
قضايا كثيرة اكتشف المثقفون أنهم كونوا فيها أفكاراً بناء على ما تنشره بعض الصحف، وتبين إنها تنشر دون تدقيق أو استناد إلى مصادر حقيقية، حتى أن الرئيس مبارك أعلن أنه فوجئ مرتين بحديث طويل عريض منشور باسمه وهو لم يقابل أحداً من هذه الصحيفة، وحين سأل كان التبرير الغريب أن المسئول عن الصحيفة أراد أن يزيد التوزيع، وجرؤ على "فبركة" حديث على لسان الرئيس!.. وإذا كانت الجرأة قد وصلت إلى هذا الحد فلابد أن هناك أحاديث أخرى على لسان مسئولين أقل نشرت بنفس الطريقة، ولابد من وسيلة ليعرف المثقفون الحقيقة من الباطل، والصدق من الكذب، والأفكار التي مازالت تحت الدراسة من المشروعات التي انتهت دراستها، من القرارات التي صدرت، فهناك فروق جوهرية بين كل حالة، والخلط بينها يؤدي إلى ارتباك العقول.
كل هذا يؤدي بنا إلى القول بأن هذه المرحلة بالذات تحتاج إلى استمرار الحوار دون توقف بين القيادات والمثقفين بشكل خاص.. كما تحتاج إلى توسيع دائرة الحوار لتشمل المسئولين والقواعد في المحافظات ومواقع العمل وبخاصة بين العمال والطلبة باعتبار أن هاتين الفئتين هما بالذات الهدفان الرئيسيان لحملات التشويه والشائعات والأكاذيب.. وإطلاع القاعدة فيها على الحقائق كاملة ومبكراً يقطع الطريق على المفسدين.
وأعتقد أن الحزب الوطني أمامه فرصة ذهبية لتنظيم هذا الحوار، بعيداً عن المظهرية، واجتماعات الخطب الرنانة، فما لم تكن الحوارات صورة طبق الأصل من حوار الرئيس مبارك مع المثقفين كما تجري في كل عام فلن تحقق شيئاً مهماً سلط عليها التليفزيون من أَضواء، ومهما حاولت الصحافة تجميلها أو تضخيم آثارها.. لأن الحوار الذي أقصده هو الفهم والتفاهم والإقناع المتبادل.. والاقتناع بالصواب .. والمناقشة.. وليس مجرد عقد اجتماعات وإلقاء خطب رنانة.. ويكفي أن نتذكر ما قاله الرئيس في حواره: أنا لا أحب الإنشاء والكلمات البراقة.. أنا أحب الواقعية.. وما يؤدي إلى عمل.. فلتكن هذه الكلمات البسيطة أمام كل مسئول في لقاءاته العامة وإلا فلن تحقق تقدماً وإنجازاً وتزيل ضباب الأفكار الخاطئة الذي يحجب الرؤية الصحيحة أمام البعض.