ليس بالقانون وحده

صدر القانون الجديد للإسكان بعد طول انتظار، بعد أن تكررت الإشارة إليه والإعلان عن قرب صدوره منذ أربع سنوات، وكان من نتيجة الإعلان عنه دون أن يصدر توقف الملاك عن التصرف في المساكن سواء بالإيجار أو التمليك انتظاراً لهذا القانون ليحددوا مواقفهم في ضوئه، وبصدور القانون ستعود الحياة بعد فترة الجمود والترقب التي طالت.


ولاشك أن مبررات إصدار هذا القانون كانت موضوعية وكافية، بعد أن ثبت وجود ما يزيد على 700 ألف شقة مغلقة في القاهرة وحدها، امتنع ملاكها عن تأجيرها لأن قانون الإيجارات الذي كان سائداً يحرم المالك من ملكه بمجرد أن يوقع عقد الإيجار، ويجعل تقدير قيمة الإيجار ومدته وشروطه خارج إرادته، وفي هذا تعارض مع الشريعة ومبادئ العدالة التي تقوم على حرية المالك والمستأجر، وقيام كل تصرف وكل تعاقد على أساس هذه الحرية التي يعبر عنها رجال القانون بأن العقد شريعة المتعاقدين، وقد سبق أن أصدر فضيلة المفتي فتواه بضرورة العودة إلى المبدأ الشرعي وعدم سلب حرية المالك فيما يملك.


وإذا كان القانون قد لجأ إلى حماية المستأجر حماية استثنائية، فقد كان في ذلك أيضاً يستخدم السلطة التي يقرها الشرع والدستور مادامت هناك فئة من المواطنين تحتاج إلى رعاية خاصة، بعد تفاقم أزمة الإسكان، وميل الميزان لغير صالح المستأجرين – وهم ملايين – مما يهددهم في أهم عنصر من عناصر الحياة الإنسانية، وهو المأوى .. تدخل المشرع بالحماية للمستأجرين في الأربعينيات وكانت مصر تعيش في ظل نظام رأسمالي، وفي سيادة الليبرالية وخضوع الاقتصاد بالكامل لآليات السوق، ورغم شدة سطوة وسلطة الملاك وأصحاب المال، إلا أن الحرص على الاستقرار والسلام الاجتماعي دفعاً إلى تغليب "الأمن الاجتماعي" على ما عداه.


ولكن مشكلة جديدة تفاقمت في السنوات الأخيرة لم تكن موجودة من قبل، وهي توقف الملاك تقريباً عن تأجير المساكن، أو تأجيرها مقابل خلو كبير، رغم تجريم القانون للخلو، أو بالتحايل على القانون بتأجير المساكن الخالية على أنها مفروشة والساكن مضطر تحت ضغط الحاجة إلى الإقرار بأنه تسلمها مفروشة وتوقيعه على قوائم وهمية بالأثاث يمكن أن تعرضه للاتهام بجريمة تبديدها وقت اللزوم، بل واخترع الملاك نظاماً غريباً هو إيجار المسكن "نصف مفروش" وهي مسألة غير مفهومة، وهذا يعطي المؤيدين للقانون الجديد حجة القول بأنه لم يكن هناك تأجير، فإذا نتج عن القانون الجديد فرصة لعودة التأجير ولو على نطاق؟؟ ضيق فسيكون أفضل مع احتمالات التوسع بعد ذلك حين يطمئن الملاك إلى أن مصالحهم في ظل التأجير أفضل من التمليك.


وهناك من يرى أن القانون الجديد إن كان سيؤدي إلى حل مشكلة الإسكان فسيكون حلاً جزئياً، متصورين أن الملاك لن يقبلوا جميعاً تأجير المسكن لمدة محدودة، لأنهم قد يرون أن الإيجار إذا كان لمدة قصيرة، أقل من ثلاث سنوات – فقد تنتج عنه مشكلات.. قد لا يقبل الساكن إذا كان يبحث عن الاستقرار.. وقد يمتنع الساكن عن ترك المسكن بعد انتهاء مدة العقد فيضطر المالك إلى اللجوء إلى القضاء وتمر فترة إلى أن يحصل على حكم بالطرد، وفترة أخرى إلى أن يتمكن من تنفيذ حكم طرد السكان بالقوة الجبرية، وقد يخشى المالك من أن يعمد الساكن إلى إتلاف الشقة قبل إخلائها في حالة رفض المالك تجديد العقد ويسبب له خسائر قد تفوق ما حصل عليه نتيجة رفع قيمة الإيجار، أما إذا كانت مدة العقد طويلة - أكثر من ثلاث سنوات – فقد يعتاد الساكن الإقامة في الحي والمسكن هو وأسرته وكلنا يعرف الارتباط الوجداني بالحي والمسكن لدى المصريين. وقد يصعب عليه مغادرة المسكن، وتغيير علاقة المواطن بالمسكن يحتاج إلى سنوات طويلة إلى أن يعتاد المصريون حياة التنقل وعدم الاستقرار ويتم اقتلاع شعور الساكن بأن هذا بيته ليستبدله بشعور آخر.. إنه ضيف لفترة ويغادره إلى غيره وهكذا..


ولابد أن نتوقع أن يبالغ الملاك في البداية في فرض شروطهم بزيادة الإيجار وقصر مدة العقد، وفي ظل قلة المعروض من الشقق وكثرة الطلب لن يقدر الشباب حديث التخرج الذي يريد الزواج والاستقرار وعلى هذه الشروط، وهذه هي الشريحة التي تسعى الحكومة إلى إيجاد حلول لمشاكلها، لأنها أكثر معاناة والأكثر استحقاقاً للرعاية، وبالتالي فإن القانون الجديد لن يحل مشكلة هذه الفئة.


كذلك فإن القول بأن قانون العرض والطلب سوف يصل بإيجارات المساكن إلى درجة التوازن قول لا يتفق مع طبيعة مشكلة السكان في مصر.. فقانون العرض والطلب لا يعمل في سوق احتكارية تقل فيها السلع والخدمات المعروضة كثيراً جداً عن حجم الطلب عليها، والقول بأن هذا القانون يعمل في أوروبا وأمريكا لا يعني أنه سيحقق نفس الأثر في مجتمعات أخرى لها ظروف اقتصادية واجتماعية وحضارية مختلفة، وتتدخل فيها عوامل تعوق فاعلية هذا القانون الاقتصادي المعروف.


وهناك زاوية أخرى تتعلق بمبدأ المساواة وهو مبدأ دستوري، فقد يقال أن القانون الجديد أدى إلى التفرقة بين المصريين.. الذين تعاقدوا قبله وأعطاهم ضمانات كثيرة مثل تحديد الإيجار ومدته والامتداد القانوني للأبناء وغيرهم بشروط معينة، والذين تعاقدوا بعده ليست لهم هذه الضمانات.. وهذه مسألة تحتاج إلى دراسة، كذلك يحتاج القانون إلى دراسة من زاوية أخرى هي المبدأ المستقر في المجتمع المصري الخاص بالوظيفة الاجتماعية للملكية الذي يراعي دائماً في النظرة السياسية، كما أن أحكام المحكمة الدستورية، شديدة الحرص عليه، وأيضاً يحتاج موقف الأطباء والمحامين وأمثالهم إلى دراسة أخرى، فالقانون الجديد يجعل مكاتبهم خاضعة له بالنسبة للتعاقد الجديد، ولم يتضمن أي استثناء خاص بهم، والقانون الخاص باستثنائهم يتعلق فقط بالتصرف بعد وفاتهم، وبالطبع لا يمكن أن يسري القانون الخاص إلا إذا كانت العلاقة الإيجارية قائمة، ولابد أن نضع في الاعتبار أن الطيب أو المحامي بعد أن يعرف عنوانه وينال شهرة يصعب عليه الانتقال.


وباختصار فإن قوانين الإيجارات في مصر معقدة لأن الأزمة تزداد.. ولأن خضوع الإيجارات للقوانين الاستثنائية استمر 55 عاماً وهي فترة طويلة يحتاج تعديل الأوضاع التي نشأت خلالها إلى التدرج والتريث وإعداد المواطنين لها إعداداً جيداً لكي يتقبلوا الأوضاع الجديدة، ويتفهموها ويتعاملوا معها، وهذا يحتاج إلى تعمل جماهيري نشيط.


ومشكلة الإسكان لا يحلها القانون وحده، فالقوانين الاستثنائية جاءت لكي تواجه واقعاً استثنائياً هو قلة عدد المساكن مما يهدد المستأجرين في أخص خصائص واحتياجات وحقوق الإنسان، وهي الحاجة إلى السكن والاستقرار.. وقبل القوانين الاستثنائية كان القانون المدني هو الحاكم ولم يحل المشكلة بل ولم يمنع حدوثها، والقول بأن العودة إلى القانون المدني سوف يحلها الآن يحتاج إلى وقت لإثبات صحته.


من هنا نقول أن القانون الجديد يحتاج إلى وقت لكي تظهر نتائجه.. ونقول أيضاً أن أي قانون لا يستطيع وحده أن يحل أزمة الإسكان.. فلن يحلها إلا أن تقوم الحكومة بدورها في بناء مساكن لمحدودي الدخل خاصة كما تفعل كل الحكومات في كل دول العالم بما فيها أمريكا وأوروبا.. وهذا ما تدركه الحكومة وقد وعدت به في مجلس الشعب.. وهذا هو الحل الأمثل والدائم.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف