إسلاميات طه حسين [2-4]
بدأ طه حسين كتابة مقالاته الإسلامية فى عام 1910 وكان واضحًا منذ البداية أنه يسعى إلى تخليص الفكر الإسلامى من الأخطاء والانحرافات ومن الجهل والتعصب، ومن الخلط بين ما هو من الدين وما هو من أمور الدنيا وشئون البشر.
كانت مقالته الأولى عن مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم وطبيعته، يناقش فيها الغلاة الذين يزعمون أن النبى (ص) يجب أن يحيط بكل شىء وأنه معصوم من الخطأ فى كل شىء وأنه جاء ليعلمنا كل شىء عن الصناعة والتجارة والزراعة وكل شىء من أمور حياتنا اليومية، وأنه عالم فى كل مجالات العلوم ومعصوم من الخطأ فى كل ما يقول وكل ما يفعل لأنه متصل بالسماء. ويرد طه حسين بأنه لاسلطان إلا الله وحده وأن لاشريك لله، وعصمة الأنبياء محدودة بحدود الوحى، وهم يبلغون رسالة الله بدعوة الناس إلى الإيمان بالله والعمل بأوامره، وبعد ذلك فإن الرسل ليسوا أطباء؟، أو فلكيين، أو رياضيين،إنما هم مبشرون ومنذرون، وإن كان من عمل الرسل أن يرشدونا إلى كل ما تحتاج إليه فى هذه الحياة ماكان للعقل فائدة، والله خلق للإنسان العقل، ولذلك أمر الله رسوله الكريم أن يشاور أصحابه ولو كان كل ما يقوله وكل ما يفعله من الوحى لما كانت به حاجة إلى الشورى، لذلك استشار النبى (صلى الله عليه و سلم) أبى بكر وعمر فى أسرى بدر، واستشار عليا وأسامة بن زيد فى حديث الإفك، واستشار أصحابه فى الخروج إلى أحد، وعندما سئل عن الروح سكت حتى نزل الوحى بالإجابة، ونفذ مشورة أصحابه فى اختيار موقع المسلمين فى غزوة بدر. والجهلاء يرون أن القول بذلك يعنى المساس بقدر النبى، وهؤلاء لايدركون الفرق بين أفعال وأقوال الرسول التى يبلغها عن الوحى فهو معصوم وبين أفعال وأقوال منه باعتباره بشرا (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ). ولايعلمون أن الصحابة كانوا يسألون الرسول كلما أمرهم أمرًا: أهو الوحى أم الرأى؟ فإذا كان الرأى أشاروا عليه.
***
بهذا المقال اختار طه حسين طريقه، اختار التصادم مع أصحاب العقول الجامدة المتعصبين، فلم يتورعوا عن كيل الاتهامات إليه ووصلت إلى حد اتهامه بالخروج عن الملة ووصلت الاتهامات إلى حد إنكار القرآن وذلك فى أزمة كتاب الشعر الجاهلى، ويرد إبراهيم عبد العزيز الباحث فى فكر طه حسين، على ذلك أن سلوك طه حسين كان نابعا من إيمان حقيقى وكذلك كانت أفكاره، بل إنه كان يعيش مع مبادئ الإسلام ورجاله حتى إنه قضى أيام رحلته إلى فرنسا عام 1947 فى القراءة عن «رجال الإسلام الأوائل» وقال إنه يحب عشرتهم وهم الذين نشروا فى الأرض نور الإسلام وأقاموا فيها مجد العرب، وعاد ليذكر قول الرسول الكريم «ماكان من أمر دينكم فإلى ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به» وكرر ذلك فى واقعة تدبير النخل فقال «أنتم أعلم بشئون دنياكم».. وفى كتاباته الأولى ظل ينبه إلى خطورة استخدام الدين فى غير موضعه ويكرر « يجب أن يظل الدين كعهده أيام النبى لا زيغ فيه ولا عوج».. وينبه إلى فئة من المضللين ركبوا رقاب الناس باسم الدين.
***
كان يريد أن يحرك فى المسلمين إرادة العمل والإصلاح وينبه إلى أن إرادة الله عز وجل قضت أن يخلق الإنسان مدنيا بالطبع ومستعدا للترقى، وأنار أمامه الطريق إلى حياة أخرى فيها السعادة الدائمة، ووهب الإنسان العقل، وهو قبس من نوره يهدى الإنسان ويتعرف به على ما ينفعه فى حياته الدنيا، وهذا العقل قاصر على الإحاطة بأمور الدين والآخرة ولذلك أرسل الله الرسل لهداية الناس إلى مراد الله، أما العلوم والحرف وغيرها من أمور الدنيا فإنما السبيل إليها بالعقل و بالتالى فإن اتهام طه حسين بالإساءة إلى الإسلام فى كتابه الشعر الجاهلى اتهام ظالم، لأن طرق الدين فى الإخبار شىء وطرق العلم فيه شىء آخر، وقضايا العلم ليست يقينية كما يظن البعض، فهى قضايا ظنية تتغير مع تقدم العقل وقدرته على البحث والاكتشاف، والبعض يتعسف فى تأويل النصوص الدينية لتلائم ما يتوصل إليه العلم وهذا يخرج النصوص الدينية عما ينبغى لها من التقديس، والخير للإنسان وللدين أن نقبل الدين كما هو لأنه من الله العزيز الحكيم، ونفصل بينه وبين العلم البشرى، لأن العلم يتغير والدين لايمكن أن يتغير.
***
فى محاضرة ألقاها أمام المؤتمر الدولى للسلام والمدينة المسيحية جعل محور حديثه (القرآن يفتح للناس أبواب الأمل).. وفى أحاديثه فى مصر فى مناسبات عديدة كان يدعو إلى إيقاظ العقل العربى ونقله من عصر النقل والتقليد إلى عصر التفكير والتجديد وهذا هو جوهر الإسلام.
ولايمكن أن يغيب عن قارئ لكتابات طه حسين أن ثقافته الأزهرية كانت متغلغلة فى عقله ومؤثرة فى فكره وفى مواقفه، فكان يدافع عن علماء الأزهر وحقهم فى الاجتهاد، وكان يهاجم علماء الأزهر الذين علموا تلاميذهم الجهود والوقوف عند ما قال الأقدمون دون مراجعة مع أن الله دعا المسلمين مرارا إلى التفكير والتأمل واستخدام العقل. ولهذا كان من أوائل الداعين إلى فتح باب الاجتهاد فى الفقه متابعا فى ذلك الأفغانى ومحمد عبده، ويحارب الذين يطاردون المخالفين لهم فى الرأى ويتهمونه فى دينهم ويتهمونهم بالكفر ويخالفون أمر الله (لا الإكراه فى الدين) والدين الذين يعلن هذا المبدأ لايمكن أن يقبل أن يدخل فيه إنسان مرغما تحت الضغط أو الإكراه أو التهديد.. وفى مواجهة الدعاة الذين بالغوا فى التشديد على الناس وأضافوا إلى الدين ما ليس فيه واستخدموا الدين لتحقيق مصالحهم كان يقول «بعدا لذلك اليوم الذى يصبح فيه الدين ألعوبة فى يد الماكرين».
كتب طه حسين كثيرًا فى نقد وتصحيح أخطاء المستشرقين نتيجة لعدم فهم النصوص الإسلامية فهما صحيحا لأنها تحتاج إلى دقة وعمق فى معرفة اللغة العربية، أو نتيجة التحامل والعداء للإسلام، ولم يترك صديقه وأستاذه المستشرق الشهير لويس ماسينيون الذى كان يجيد اللغة العربية فوجه إليه نقدًا شديدًا ورأى أنه مثل كثيرين من المستشرقين مع اتقانهم للغة العربية ومع خدمتهم لها فإنهم يخطئون أحيانًا فى فهم هذه اللغة ويقيمون على ذلك نظريات لا أساس لها.
إن نظرة طه حسين إلى الإسلام مختلفة عن نظرة التقليديين المقيدين بالروايات والآراء القديمة التى لم تخضع للفحص بمنهج علمى صحيح، فهو يؤمن إيمانا هو اليقين كله بالإسلام وكتابه ورسوله وهو يؤمن بحق المسلم أن يستعمل عقله فى التحليل والمناقشة والمراجعة.. رؤيته إلى الإسلام فيها تمجيد لما يسميه إسلام الأصل، وإسلام الصفاء، وإسلام الفطرة، وهو إسلام بلا أساطير ولا خرافات، وبلا كهنوت ولاجمود ولاغلو ولا شطط.. وهذا ما يجعله مفكراً إسلاميًا مخلصًا يخاطب العقول لأن الإسلام دين العقل ، ويعيد دراسة وتقديم التاريخ الإسلامى ليكون فى ذلك إصلاح لما فسر من حال المسلمين، أو كما قال فإنه يريد أن يخلص المسلمين مما فى عقولهم وقلوبهم من الجمود ورفض كل جديد، مع أن التجديد هو سنة الحياة. وهو يرفض الدعوات الخبيثة أو الجاهلة التى تؤدى إلى إثارة الخلافات بين المسلمين فى شئون دينهم ويفرق وحدتهم، وكيف لا يتوحد المسلمون وهم يعبدون إلها واحدا لا شريك له ويتعبدون ويحيون بكتاب واحد وبرسول واحد.. فكيف لايكون الإسلام إسلامًا واحدا،وكيف لايكون المسلمون وحدة واحدة؟