الحكومة ... والصحافة

في يوم واحد اجتمع رئيس الوزراء الجديد، الدكتور كمال الجنزوري مع قيادات الأحزاب (الأغلبية والمعارضة) ومع رؤساء تحرير الصحف (القومية والحزبية) وكانت هذه رسالة لها دلالات مبشرة، دلت على أن الحكومة الجديدة تعمل بأسلوب سياسي ولا تكتفي بتقارير اللجان وراء الفنيين والخبراء، وإنها تدخل في مصالحة مع أصحاب الرأي على اختلاف توجهاتهم، وترحب بالاختلاف والتعددية، وتتعامل مع الجميع دون تفرقة لأن الجميع في قارب واحد ولهم هدف واحد.


وأهم ما في لقاء رئيس الوزراء مع القيادات الصحفية – في رأيي – هو رغبة الحكومة الجديدة في إيجاد جسور ثقة بينها وبين الصحافة، وبالتالي بينها وبين الرأي العام. وكان تعبير رئيس الوزراء قوياً وواضحاً في إيمانه بحرية الصحافة، وحرية الرأي، وثقته في إخلاص النوايا بالنسبة للمؤيدين والمعارضين على السواء، ورغبته في البحث عن صيغة للتعاون.. ولأول مرة يقرر رئيس الوزراء بأن يكون لقاؤه برؤساء التحرير دورياً.. وأن يكون هدفه ليس مجرد إلقاء بيان أو الإدلاء بتصريحات للنشر، ولكن لتبادل الرأي، والتفكير بصوت عال، وطرح أفكار وتصورات لمناقشتها، واختبار جدواها بصرف النظر عن النشر، وهذا ما يحدث في كل الدول الديمقراطية، ليعرف أصحاب الرأي كيف تفكر القيادات العليا المسئولة.. وماذا في جدول أعمالها.. وما هي الحقائق المحيطة بكل موقف وكل قرار، ليكون ذلك خليفة لأزمة لها وهي تشارك في مسئولية التفكير وتوجيه الرأي العام.


وبدأ في هذا اللقاء أن الفكرة الديمقراطية واضحة في تفكير رئيس الوزراء الجديد، وأنه ليس من المدرسة التي كانت ترى ترك الصحافة في واد، وبقاء الحكومة في واد آخر، وإقامة عازل بين الاثنين تنمو عليه تلال من الشكوك المتبادلة، وسوء الظن، وعدم التصديق، والتوجس، وعدم إدراك حقيقة النوايا، تأكدت أن رئيس الوزراء الجديد مؤمن بأنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية بغير حرية الرأي، ولا يمكن أن تكون حرية الرأي مقصورة على حرية القول دون أن يكون لهذا القول صدى أو تأثير.. فالديمقراطية لا تجدي ولا تثمر إذا لم يكن هناك حوار بين الآراء والأفكار.. وبحث مشترك بين أطراف – بينها خلاف – عن أفضل الحلول للقضايا والمشاكل الوطنية، على أساس أن الخلاف في الرأي وارد.. بل هو لازم وإذا لم يوجد تلقائياً لابد أن نوجده - ولو نظرياً – لأن الحقيقة لا تظهر إلا بعد النظر إلى كل موضوع من زوايا مختلفة وبرؤى متعارضة.. لكي يأتي الاتفاق عن يقين واقتناع، وعلى الأفضل.


رئيس الوزراء الجديد مؤمن بأنه ليس هناك من يحتكر الصواب وحده، أو يمتلك الحكمة دون سواه، أو يملك الحق في أن ينفرد بالرأي أو القرار في أمور تخص وطناً بأكمله.. وهو مؤمن أيضاً بأن الغالبية العظمى من أصحاب الرأي في مصر مع الاختلافات إلا الحرص على المصلحة العامة، والرغبة في تطوير الأداء وإذا قيل أن هناك قلة منحرفة، أو مغرضة أو تختار جانب الافتراء على الحق، أو تناصر العدوانية والإرهاب، فهي قلة قليلة، وحرية الرأي كفيلة بكشفها أمام الرأي العام وتعرية نواياها وأهدافها وارتباط مصالحها بقوى مشبوهة.


ولأول مرة تبدي الحكومة اهتمامها بكل ما ينشر في الصحف، بعد أن سادت نظرية غريبة سيئة العواقب مؤداها أن إهمال ما ينشر من وراء قضايا وأخبار هو أفضل وسيلة لإظهار عدم أهميتها، أو تركها للنسيان، بينما يحدث العكس، فكل خبر كاذب لا يتم تكذيبه على الفور يستقر في الوجدان العام أنه صادق ويصعب بعد ذلك التشكيك فيه، وكل رأي لا يواجهه رأي يمكن أن ينفرد بتشكيل الضمير العام، وكل منبر لا يجد صدى كما يقال فيه ستزداد النبرة فيه أكثر وأكثر حتى يصبح الحوار نوعاً من الصراخ المتبادل الذي يفتقد إلى العقل والمنطق.


ولإيجاد جسور حقيقية بين الحكم والصحافة قرر رئيس الوزراء إنشاء مكتب لمتابعة كل ما تنشره الصحف وأهم من ذلك أن رئيس الوزراء أبدى تفهماً كنا نفتقده ونشكو منه، وهو حق الصحافة في أن تكون لها وسيلة اتصال سهلة ودائمة للحصول على المعلومات.. فالصحافة مطلوب منها ألا تنشر إلا الأخبار الصادقة ومصادر الأخبار تغلق أبوابها وتعتبر كل ما لديها أسراراً لا يجوز البوح بها للصحافة وقانون العاملين بالدولة فيه مادة صريحة تحظر على كل موظف عام أن يقدم بيانات أو معلومات للصحافة، وألا تعرض لعقوبات شديدة وهي مادة غريبة لا مثيل لها في أي دولة في العالم، فإن كانت الأبواب مغلقة أمام الصحف ووظيفتها نشر الأخبار وإعلام الرأي العام بما يجري فكيف يمكن أن تؤدي دورها بشكل معقول.. من هنا كان لموقف رئيس الوزراء صدى طيب حين أعلن أنه مؤمن بحق الرأي العام في معرفة ما يجري، وليس من سياسته إخفاء الحقائق عن الشعب، وأنه سيعد أكثر من وسيلة تيسر حصول الصحف على الأخبار والمعلومات الصحيحة لتؤدي وظيفتها من ناحية ولا تقع في الخطأ من ناحية أخرى ويبقى أن تكون هذه سياسة عامة لكل الوزراء وكل المسئولين لكيلا نضطر الصحفيين إلى البحث عن الأخبار من غير مصادرها الطبيعية، ونحميهم من نشر أخبار كاذبة بحسن نية ثم نعود لنقول أن هذا الخبر عار من الصحة جملة وتفصيلاً، وأن الصحيفة لو كانت تلمست الخبر من مصدره لوصلت في الحقيقة.. بينما الواقع أن الصحافة والصحفيين لا عمل لهم إلا الجري وراء الأخبار من مصادرها فإذا تعذر عليهم ذلك فلا لوم عليهم إذا تلمسوها من أي مصدر آخر.


لقد كان هناك تصور بأن التليفزيون والمؤتمرات والنشرات التي تصدرها الوزارات يمكن أن تقوم بالرد الإعلامي كلها، وتجربتنا نحن أيضاً، ثبتت أن الصحافة هي المنبر الأول الذي يخاطب المثقفين والمستنيرين من القادة الاجتماعيين وقادة الرأي العام في مختلف القطاعات والمستويات، وهؤلاء هم الذين ينقلون التأثير إلى الملايين باللغة التي تناسبهم، وبدون الصحافة فإن كل وسائل الإعلام الأخرى يتعذر عليها القيام بدورها، ولذلك فإن الصحافة القوية.. الصحافة الحرة الصحافة الصادقة، هي الأسلحة الثقيلة في معركة تعبئة الرأي حول قضايا التنمية بأبعادها المختلفة.. ولن تحقق الحكومة النجاح كاملاً في برنامجها الطموح إلا إذا ساندت الصحافة وساندتها الصحافة.


هناك فترة كانت هناك حكومة جيدة ولكن الثقة والمصداقية لم تكن بهذه الدرجة لأنها لم تحسن التعامل مع الصحافة ولم تثبت قدرتها على العمل السياسي بين الجماهير ولذلك حققت إنجازات لم يشعر الناس بقيمتها وربما تكون قد توصلت إلى تحقيق معجزات دون أن يصدق المواطنون ذلك.. من هنا نقول أن الوزارة الجديدة بدأت خطوة تدل على أن المفهوم السياسي هو الذي سيسود العمل التنفيذي في المرحلة القادمة وإذا سارت في هذا الطريق دون أن يشغلها عنه زحام المناسبات والاجتماعات والواجبات الاجتماعية فسوف تحقق إنجازاً عظيماً هو ثقة الشعب فيها واستعداده للتعاون معها والاستجابة لما تطلبه منه وهذا هو النجاح السياسي الذي تتمناه حكومات كثيرة ولا تحققه إلا حكومات قليلة.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف