في آخر تصريح لوزير خارجيتنا عمرو موسى في باريس، وعقب لقائه مع الرئيس الفرنسي قال: إن الجميع متشائمون من مسيرة السلام في الشرق الأوس.. فإذا أضفنا إلى ذلك آخر تصريحات رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نيتانياهو التي قال فيها إن العرب صراصير ويستحقون القتل: "فسنجد أمامنا الموقف خطير".
ليست الخطورة من تصريحات هنا وهناك، مهما تكن متشائمة أو جارحة للمشاعر، ولكن الخطورة هي أن استمرار ما تفعله إسرائيل الآن أمر مستحيل. مستحيل أن تستمر إسرائيل فيفرض الحصار على الفلسطينيين وتمنعهم من العمل وتقتلهم جوعاً.. ومستحيل أن تستمر في إغلاق المدارس والجامعات لتحرم أبناءهم من التعليم.. ومستحيل أن يعيش الفلسطينيون في أرضهم أسرى تحت رحمة قوات الاحتلال الإسرائيلي.. ومستحيل أن يصبح السلام منحة إسرائيل إن شاءت أعطتها وإن شاءت سحبتها..
وقد يكون الموقف الإسرائيلي مستنداً إلى شعور زائف بالقوة نتيجة المساعدات العسكرية والاقتصادية والدعم السياسي الذي تحصل عليه من الولايات المتحدة.. وقد يكون أيضاً نتيجة الروح العنصرية التي تجعل اليهود يتصورون وهماً أنهم شعب الله المختار، بينما بقية الشعوب خارجة عن رعاية الله "!" أو نتيجة تصديقهم للأكذوبة التي روجوها عن العبقرية اليهودية الخاصة، والتفوق اليهودي.. إلى غير ذلك من الأوهام والأساطير في كتب التراث اليهودي القديمة التي يعيدون إحياءها..
ولكن العامل الأهم من كل ذلك هو إدراك إسرائيل أن العالم العربي يعيش الآن في حالة من التمزق والضعف يصعب معها على العرب أن يقفوا صفاً واحداً، وأن يواجهوها معاً.. فالخلافات العربية مازالت عميقة.. خلافات الحدود القديمة استيقظت فجأة وتفجرت وأوجدت جواً من التوتر بين الأشقاء..وجراح العدوان العراقي على الكويت لم تندمل، ويبدو أنها لن تندمل إلا بعد عشرات السنين، مما يعني أن حالة التوجس وفقدان الثقة داخل الكيان العربي ستظل إلى فترة طويلة قادمة.. وغياب العراق عن الساحة أخل بالتوازن الإقليمي وأضعف محصلة جمع القوة العربية.. والبترول لم يعد سلاحاً يخيف أحداً.. وكلام العرب أكثر من فعلهم.. والوقت لصالح إسرائيل وليس لصالح العرب.
ربما تكون هذه أهم العوامل في حسابات إسرائيل التي تجعل حكومتها تتخذ مواقف متشددة، وتغلق أبواب الحوار، وتدفع بعملية السلام إلى طريق مسدود، وتقابل بالرفض كل دعوة عربية لاستئناف مسيرة السلام، والكف عن التوسع الاستيطاني في أرض العرب، واستفزاز المشاعر العربية.. ولكنها حسابات قصيرة النظر على أية حال.. لأن العرب غداً لن يكونوا كعرب اليوم.. وكل شيء يتغير.. ومرارة الضغط تولد الانفجار مع الوقت، وتغرس الرغبة في الثأر..والدليل على ذلك اليهود أنفسهم.. فلقد تحملوا اضطهاد النازي ولكنهم لم ينسوا ثأرهم، وانطلقوا حين سنحت الفرصة يطاردون كل من شارك في جرائم النازي، ومازالت جماعات تسمى "صائدو النازي" يتعقبون من بقى حياً ممن شاركوا في تعذيب اليهودي أيام حكم هتلر ويقتلونهم في أي مكان في العالم.
فالرهان الإسرائيلي كما يمثله نيتانياهو قد يكسب في الحاضر، ولكنه سيكون الخاسر بكل تأكيد في المستقبل.. ولكن القضية ليست – فقط – ماذا تريد إسرائيل وكيف نلزمها بالقانون والأخلاق لكي ترد الحقوق إلى أصحابها.. القضية – أيضاً – هي ماذا يريد العرب.. وماذا يجب عليهم أن يفعلوا .. فالعرب مازالوا أحياء.. ومازالت لديهم عناصر قوة يمكن حشدها واستخدامها.. ولديهم أوراق للضغط.. والعرب ليسوا أمة بلا روح.. هناك رأي عام يتبلور ويضغط ولم يعد الحكام قادرين على تجاهله أو العمل على عكس اتجاهه .. الشعوب العربية وصلت إلى درجة من الوعي تجعلها قوة يجب أن يحسب لها حساب..
ومؤتمر القمة العربية الذي عقد في القاهرة كان علامة مهمة في هذه الفترة، لأنه انعقد في وقت كانت الحسابات في العواصم الكبرى تؤكد أن القادة العرب لا يمكن أن يجتمعوا.. فاجتمعوا .. وكانت الحسابات إنهم لا يمكن أن يتفقوا .. فاتفقوا .. وكانت الحسابات أنهم لا يمكن أن يتجاوزوا عن الخلافات بينهم.. فتجاوزوها..ولذلك كان رد الفعل في إسرائيل شديداً.. وخرجت تصريحات تكشف عن خيبة الأمل.. وقال قادة إسرائيل: أن مجرد اجتماع القادة العرب معاً، فإن هذا يعتبر عملاً عدائياً موجهاً ضد إسرائيل.
فكأن حسابات إسرائيل قائمة على استمرار التمزق والصراع العربي.. وكأنها ترى في ذلك ضماناً للأمن والاستقرار.. وكأنها تريد أن تفرض السلام بهذا المعنى.. سلام بين كل دولة عربية وإسرائيل، وعلاقات متميزة سياسياً واقتصادياً ..وحرب بين كل دولة عربية وكل دولة عربية أخرى، وعلاقات سياسية واقتصادية شكلية تصل إلى أدنى مستوى ممكن.
ولا أحد يلوم إسرائيل إذا كانت هذه حساباتها، فهي بالقطع تضع سياساتها وتصوراتها للمستقبل لصالح إسرائيل وليس مصلحة العرب، وعلى العرب – إذا أرادوا وإذا استطاعوا – أن يضعوا تصوراتهم للمستقبل بما يحقق مصالحهم.. فلن يحمي العرب غيرهم، ولن يحشد لهم عناصر القوة إلا هم أنفسهم.. ومن العبث أن يهمل أصحاب القضية في شأن أنفسهم ويطلبوا من الغير أن يرعى مصالحهم.
من هنا تأتي مسئولية حكمة العرب.. الحكام والمثقفون.. لكي يبدأوا العمل على طريق جديد، وبأسلوب جديد.. يرفضون فيه منذ البداية الانسياق وراء الدعوات التي تشكك في قدرة العرب، وجدوى وحدتهم.. وتشكك في إمكان وصولهم إلى نقطة التقاء أو إطار حقيقي للعمل المشترك.. وتمهد الطريق بصير وحزم أمام فكر جديد يدعو إلى فتح صفحة جديدة.. ومهما تكن الجراح فإن ما ينتظرنا أسوأ من كل الجراح..ومهما تكن المرارة من الأشقاء فإن المرارة التي يدبرها لنا الآخرون أكثر إيلاماً..
ليس المطلوب مؤتمرات يعتلي فيها الخطباء المنابر.. فقد وصل الرأي العام العربي إلى حالة اليأس من جدوى الكلام.. والانخداع بالنفاق السياسي الذي يظهر بالقول أشد شعارات الوحدة حماساً ويمارس بالفعل أشد أعمال العداء للوحدة.. وليس المطلوب مزيداً من الأغاني والأناشيد والأشعار، فلدينا منها ما يزيد على الحاجة..المطلوب عمل حقيقي.. عمل جاد.. خطوة أخرى إلى الإمام بعد خطوة القمة العربية.. يجب ألا تبقى هذه الخطوة وحدها على الطريق وبعدها نتوقف..
والخطوة العملية الممكنة الآن هي بعث الحياة في السوق العربية المشتركة.. فهي ممكنة ..بل هي ضرورية لأنها تحقق مصلحة لكل البلاد العربية.. وليس معقولاً أن تكون تجارة العرب مع العرب هامشية، وتجارتهم الأكبر مع العالم الخارجي.. وليس معقولاً أن تكون بعض الدول العربية مفتوحة أمام الأجانب دون أي إجراءات ويكون حصول العربي على تأشيرة دخول ولو للزيارة، أمراً شديد الصعوبة، وأحياناً يقابل بالاستغراب..
من الخطر أن يستمر بناء الاقتصاد العربي على أساس التفرقة والتجزئة والانقسام.. فهذه حالة طارئة وستزول.. ولكن حين تزول سيكون من الصعب إعادة بناء اقتصاد كل دولة عربية من جديد لتلائم الوضع الجديد.
قد يكون من عيوب العرب أنهم لا يفكرون إلا في الحاضر، ويتركزون المستقبل ليأتي كما يشاء القدر..وغالباً ما يكون القدر هو إرادة الآخرين الذين خططوا وعملوا ومهدوا لسنوات طويلة.. ولنذكر أن المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل عام 1898 قرر إقامة الدولة الصهيونية بعد خمسين عاماً.. وقامت بالضبط بعد خمسين عاماً..
الآن .. على الحكماء العرب أن يرسموا خريطة المستقبل ولو لعشرة أعوام..