رسالة الأزهر العالمية
جاءت زيارة الإمام الأكبر شيخ الأزهر إلى باكستان والهند في وقتها المناسب. وكان نتائجها الإيجابية أكبر مما كان متوقعاً، كان المسلمون في البلدين يتطلعون منذ سنوات إلى مثل هذه الزيارة لكي تجدد فيهم الشعور بالارتباط الروحي بمصر، وبالأزهر، ولكي تجيب عن أسئلة جديدة تشغلهم ويلتمسون من الأزهر الشريف أن يقدم لهم الإجابات الصحيحة عنها..
ولقد أتيح لي أن أتابع الزيارتين وأعايش المسلمين في البلدين، فرأيت كيف يحتل الأزهر الشريف مكانة سامية في قلوبهم لا تصل إليها أية هيئة أو مؤسسة أخرى.. ويشرك في هذا الشعور المسئولون الرسميون على أعلى مستوى، والمواطنون العاديون في الأسواق والقرى والمناطق النائية..
ونتيجة لهذه الزيارة فإن مصر يجب أن تعيد حساباتها لكي تزيد الاهتمام بالدائرة الإسلامية التي تحتل فيها موقع الصدارة والتأثير، وتقدم إلى المسلمين في مختلف أنحاء العالم الدعم الروحي والعلمي الذي يحتاجون إليه.. فالأزهر الشريف ليس مؤسسة دينية مصرية لخدمة المصريين وحدهم.. ولكنه – في حجمه الحقيقي – أكبر من ذلك.. ورسالته تتسع لتشمل العالم كله.. وهو مسئول عن رعاية المسلمين في كل مكان.. أغلبية وأقلية.. ورعاية أبنائهم.. وتقديم التوجيه والمعرفة بانتظام واستمرار.. ليكون مع المسلمين في كل أحوالهم.
وهناك تطورات في العالم الإسلامي تقتضي استدعاء الأزهر ليكون حاضراً في كل مكان يعيش فيه المسلمون.
* هناك تطورات مادية وحضارية ومعطيات جديدة لم يعرفها المسلمون من قبل، ولم تطرح في ساحة الفكر أو الفقه الإسلامي، واختلف حولها المسلمون بين موقف الرفض حتى ظهر الإسلام – بالقياس إليهم – وكأنه ضد الحضارة والتطور ورافض لتقدم البشرية وعاجز عن ملاحقة التقدم العلمي والتكنولوجي.. خاصة مع ظهور جماعات تدعو إلى استنكار الحضارة الحديثة والانسحاب من الحياة المعاصرة والهجرة إلى الكهوف وإلى التاريخ .. وإدارة الظهر للحاضر والمستقبل ولابد أن يعمل الأزهر بقوة كي يعد المسلمين إلى الحياة في عصر تتلاحق فيه التطورات، ويدفعهم إلى المشاركة في قيادة هذا العالم، والنهوض من حالة الاستسلام والرفض إلى حالة العمل والمشاركة وقبول التحديات كما كان أسلافهم في عصور الازدهار.
* وهناك غزو منظم يجتاح الإسلام – كعقيدة وشريعة – كما يجتاح المسلمين، يشوه حقائق الإسلام، ويفسد عقول المسلمين، ويسد عليهم منافذ الحياة بأن يجعل كل واحد منهم يسارع باتهام الآخر بالكفر، هذه الغزوة ليست في مصر وحدها، ولكنها في كل العالم الإسلامي، وقد لمسناها في باكستان والهند، والشكوى منها مريرة، والعواقب وخيمة، وإذا لم يتقدم الأزهر لقيادة العالم الإسلامي في معركة ضد التطرف والإرهاب، ونشر مفاهيم ومبادئ الإسلام الصحيح، فمن الذي يستطيع أن يقوم بهذا الدور لإنقاذ الإسلام والمسلمين..؟
* وهناك خطر اجتماعي يهدد مجتمعات المسلمين في كل مكان، يتمثل في أفكار مدسوسة تقلل من شأن المرأة، وتحرمها من المساواة في الحقوق والواجبات الاجتماعية والقانونية والشرعية، وتجعل قضية كثيرين من قادة هذا التيار الذي يستشري خطره لا يرون وسيلة للتقرب إلى الله إلا بالضغط على المرأة وحرمانها من أبسط حقوق الإنسان. حتى حق التعليم.. والعمل.. واختيار الزوج.. ولذلك كان جهد الإمام الأكبر كبيراً في توضيح حقيقة مكانة المرأة في الإسلام وحقوقها التي تكفلها الشريعة.. خاصة بعد أن وصلت جماعة طالبان إلى العاصمة في أفغانستان وكان أول ما فعلوه إغلاق مدارس البنات وحرمان المرأة من العمل وفرض ملابس غريبة للمرأة تبدو كالعبيد في مجتمعات القرون الوسطى، مما جعل المفكرين ورجال الإعلام في العالم يتساءلون: هل هذا هو الإسلام.. وهل سيكون هذا حال العالم إذا طبقت فيه الشريعة الإسلامية، ولذلك كانت جولة الإمام الأكبر ضرورية لتوضيح مبادئ الإسلام. العدل.. الحرية..المساواة.. الكرامة الإنسانية ..الخ في مواجهة هذه الردة الدينية التي تكاد تعصف بالعالم الإسلامي كله.
* وهناك قضية نشر اللغة العربية والتعليم الديني الإسلامي، وفقاً لمناهج الأزهر، باعتباره القدوة في هذا المجال.. وكان مطلب المسئولين والقيادات في باكستان والهند أن يضاعف الأزهر عدد مبعوثيه في البلدين لكي يتسع دوره وتأثيره ويواجه الاحتياج الشديد له، خاصة أن باكستان مهتمة في هذه المرحلة بتعليم اللغة العربية، وهناك مدارس وجامعات إسلامية، كما أن المسئولين فيها ينظرون بالتقدير للخطوة التي أقدم عليها الأزهر بإنشاء معهد ابتدائي لتعليم اللغة العربية والدين مع بقية العلوم، وفقاً لمنهج المعاهد الأزهرية، وهم يطلبون المزيد .. ومهما يقل عن الاعتمادات والميزانيات والإمكانات فإن العائد من هذا العمل أكبر وأهم من كثير من الأنشطة الأخرى التي توجه إليها الاعتمادات.. ولذلك أعتقد أنه آن الأوان لتضع الدولة خطة شاملة لمضاعفة أعداد مبعوثي الأزهر إلى الدول الإسلامية ومضاعفة عدد المنح التي يقدمها الأزهر لأبناء هذه الدول للتعليم في معاهده وجامعته.. ولو أن المسئولين كانوا معنا في هذه الرحلة واستمعوا إلى أبناء الهند وباكستان، الذين لا يعرفون العربية، وهم يرتلون القرآن ترتيلاً جميلاً بلسان عربي سليم، ويتشوقون إلى دراسة اللغة العربية ليتابعوا فهم هذه الآيات بلغتها الأصلية، ولو أنهم استمعوا إلى رئيس وزراء باكستان والهند وهما يتحدثان عن الأزهر باحترام شديد يرفعه إلى أعلى درجة، لأدركوا أن رسالة مصر، ودورها لها شقان: شق سياسي وحضاري في قيادتها للعالم العربي وتحمل مسئولية إقرار السلام في المنطقة، وشق آخر يتمثل في القيادة الروحية للعالم الإسلامي لا يمكن أن يقوم به إلا الأزهر الشريف، برجاله الذين يمثلون الحراس الساهرين على سلامة العقيدة الإسلامية وحمايتها من كل عدوان أو انحراف، ولولا الأزهر لما ظل الإسلام – كما هو الآن - نقياً سليماً كما أراده الله تعالى..
الأزهر هو خط الدفاع الأول عن الإسلام وشيوخه هم كتائب الدفاع عن الإسلام ضد أعدائه – وهم كثيرون – وكشف ما يدسه أعداء الإسلام من أفكار ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
* ثم هناك قضية استعادة قدرة الأزهر على توجيه الخطاب الديني السليم بلغة يفهمها المسلمون في كل أنحاء العالم..والمسلمون في العالم يتحدثون بلغات متعددة.. والمشكلة إننا نحتاج إلى أعداد كبيرة من رجال الدين الإسلامي لديهم التعمق والاستيعاب الكامل لكل أحكام العقيدة والشريعة الإسلامية ولديهم في نفس الوقت القدرة على عرضها وشرحها والدخول في حوارات مع المفكرين والجاهلين بلغات مختلفة.. ولقد أدركت في هذه الرحلة أن الأزهر لابد أن يدخل اللغات الأجنبية كمادة إجبارية في جميع سنوات الدراسة لأننا قد نجد من يجيد اللغات الأجنبية ولكنه لن يستطيع التعبير عن الأحكام الفقهية وترجمة المعاني الدقيقة في القرآن والسنة.. لا يقدر على ذلك إلا أبناء الأزهر وحدهم..
باختصار إن رحلتي مع فضيلة الإمام إلى باكستان والهند جعلتني ألمس عن قرب إلى أي مدى نحتاج الآن إلى وقفت لتجديد الأزهر ودعمه وتأهيله للتوسع في أداء رسالته العالمية.