نيتانياهو.. وغطرسة القوة

لو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو استمع إلى تحذيرات الرئيس حسني مبارك المتكررة خلال الفترة الأخيرة لكان قد أعفى نفسه من الوقوع في هذا الموقف الحرج، فها هو الشعب الفلسطيني يتحرك، ليس فقط احتجاجاً على النفق الذي شقته الحكومة الإسرائيلية تحت المسجد الأقصى، ولكن تعبيراً عن انفجار شعبي نتيجة تراكم مشاعر السخط من مواقف حكومة الليكود التي أوقعت نفسها في شرك ما أسماه السياسي الأمريكي المعروف "وليم فولبرايت" غطرسة القوة، وسبق أن حذر منه أمريكا وإسرائيل أيضاً.


غطرسة الإحساس بالقوة هي التي دفعت السيد نيتانياهو إلى أن يعلن مزهواً بنفسه أنه لن ينفذ اتفاقات الحكم الذاتي التي وقعتها حكومة إسرائيل مع الفلسطينيين، والتي وقعتها معها الولايات المتحدة وروسيا أيضاً..


وغطرسة القوة دفعته إلى الشعور بأنه قادر على قمع الشعب الفلسطيني بالتهديد والاعتقال باستخدام السلاح والقتل إذا لزم الأمر.. وغطرسة القوة دفعته أيضاً إلى التضييق على الفلسطينيين في الحصول على لقمة العيش.. فحرمهم من مصادر الرزق، وأغلب الباب أمام منتجاتهم.. ومنعهم من السفر والحركة.. وكان يظن أن ذلك يمكن أن يدوم إلى ما لا نهاية.. وأن القرار سيظل بيده يمنح ويمنع ويعطي ويأخذ .. ويهب الموت والحياة.. وتجاهل الفلسطينيين بشر.. لهم مشاعر.. ولهم إرادة.. ولهم الحق في الحياة، كما أن الإسرائيليين يطالبون بهذا الحق.


غطرسة القوة جعلت نيتانياهو لا يسمع أو لا يفهم التحذيرات التي جاءته على لسان الرئيس مبارك من أن أمن إسرائيل لا يتحقق بخنق الفلسطينيين وأن الأمن نتيجة طبيعية لرد الحقوق المغتصبة، وتقديم الدليل على حسن النيات الإسرائيلية تجاه العرب وتجاه السلام، ولكن مفهوم نيتانياهو عن الأمن مفهوم غريب.. فهو يتصور أن أمن إسرائيل يمكن أن يتحقق بتضييق الخناق على الفلسطينيين وحرمانهم من كل حقوقهم دون مبالاة بما يترتب على ذلك من مشاعر التوتر وتراكم الإحساس بالظلم الذي يولد الانفجار حتماً بعد وقت يطول أو يقصر.. وهو أيضاً يفهم "الأمن" على أنه استمرار القبضة الحديدية، واستخدام أقصى درجات العنف وعدم الخشية من إقامة حمامات الدم للفلسطينيين.. ونيتانياهو له كتاب عن "الإرهاب" يدافع فيه عن فكرته الأساسية وهي مشروعية استخدام الإرهاب لتحقيق أهداف إسرائيل، وسوف يحتاج إلى وقت سيكون ثمنه باهظاً لكي يعلم أن هذه النظرية غير صحيحة، وأن الإرهاب من جانب إسرائيل سيؤدي إلى نمو الإرهاب في الجانب الفلسطيني إلى أن يصل إلى حد يصعب – وقد يستحيل – السيطرة عليه، ولعله نسى الحكمة القديمة التي تقول إنك من السهل أن تطلق الوحش من القفص ولكن من الصعب جداً أن تعيده إلى القفص مرة أخرى.


ربما يكون رئيس الوزراء الجديد وهو في بداية عمله في منصب ربما لا يقدر خطورته، ومازال متأثراً بأحلام أو أوهام عن قدرة إسرائيل على السيطرة بغير حدود، وإمكانها الحصول على كل شيء دون أن يقدم في المقابل أي شيء.. وعذره إنه لم يسبق له تولى منصب يقترب فيه من ممارسة السلطة ومعرفة طبيعة قيادة دولة بما تفرضه من التزامات وأخلاقيات وبصيرة.


ولو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قرأ شيئاً مما قاله السناتور فولبرايت في كتابه "غطرسة القوة" لتحذير أمريكا وإسرائيل من العواقب الوخيمة للاستمرار في الاعتماد على ممارسة القوة بدلاً من الاعتماد على سياسة متوازنة وعادلة في علاقاتهما مع الدول الأخرى تقوم على الالتزام باحترام الاتفاقات والقانون الدولي لكي تكتسب الدولة المصداقية والاحترام في المجتمع الدولي، حقوق الآخرين وفي كتاب فولبرايت تحذير صريح لأمريكا وإسرائيل من نتائج تجاهل حق الشعوب العربية في العيش في سلام وأمن، وهذه هي الحكمة التي مازالت غائبة عن حكومة الليكود.. فهي تظن أنها حكومة القوة.. حكومة إسرائيل القادرة على أن تفرض إرادتها ولا تقابل إلا بالرضوخ والاستسلام من الجانب الآخر.. وهذه أوهام تبددها قراءة التاريخ وتفهم خريطة العالم كما أصبحت عليه الآن وما كانت عليه منذ سنوات يكفي ذلك لكي يدرك قادة إسرائيل الجدد أن سياساتهم الحالية ستؤدي إلى عزلة إسرائيل وليس إلى سيطرتها على المنطقة.. وستضيع فرصة تاريخية نادرة لن تتكرر قائمة الآن أمام إسرائيل للاندماج في المنطقة في مناخ يتقبلها ومستعد لإعطائها الفرصة للمشاركة السياسية والاقتصادية في المنطقة.. ولو أن حكومة إسرائيل أدركت أن أمن إسرائيل ليس منفصلاً عن الأمن العربي، وأنه من غير الممكن منطقياً وعملياً أن تظفر إسرائيل بالأمن عندما تهدد أمن العرب.


ثم أن غطرسة القوة التي تمارسها هذه الحكومة الإسرائيلية ستدفع إسرائيل ثمنها سياسيا ًواقتصادياً أيضاً، بل إن الخسائر الاقتصادية ستكون فادحة ولن يحتملها المواطن الإسرائيلي ولن تتمكن الحكومة من تعويضها، خاصة إذا طال مداها، مهما بلغت المعونات والمساعدات الأمريكية واليهودية، وليس هناك سياسي في العالم لا يعرف كيف أن حرب أمريكا في فيتنام أثرت في الاقتصاد الأمريكي ووصلت به إلى درجة التصدع، بالرغم من أن فيتنام دولة صغرى وأمريكا دولة عظمى، فكيف تستطيع إسرائيل سياسياً وأمنياً واقتصادياً أن تعيش لفترة طويلة في مواجهة انتفاضة شاملة من الشعب الفلسطيني يحركها اليأس وجرح الكرامة وضياع الحقوق..؟


ربما كانت مشكلة نيتانياهو إنه يفكر متأثراً بالعقد النفسية التي تحكم إسرائيل من أساطير قديمة وتهويل لأحداث الاضطهاد التي عانى منها الشعب اليهودي، والمبدأ الدموي غير الحضاري، إما أن تكون قاتلاً أو أن تكون قتيلاً!.


بوسع إسرائيل أن تعيش وتحقق لنفسها الأمن إذا هي اعترفت بحق الآخرين في الأمن وأمنت بالمبدأ السياسي .. الأخلاقي .. "عش ودع غيرك يعيش".


بوسع إسرائيل أن توفر على نفسها كثيراً من الخسائر إذا هي استمعت إلى صوت الحكمة الذي يأتيها من القاهرة وألا تغلق الباب أمام فرصة السلام السانحة، لأن هذه الفرصة إذا ضاعت فلن يكون من السهل استعادتها، وكذلك فإن مشاعر الثقة لدى الشعوب العربية في مصداقية إسرائيل ونياتها إذا تبددت فلن يستطيع الحكام أن يفرضوا ما يتعارض مع إرادة شعوبهم.. ومتى سيصدق حكام إسرائيل أن الشعوب العربية لها إرادة وفيها رأي عام ضاغط على الحكام وأن تغيير الرأي العام في العالم العربي لا يتم بمجرد إصدار الأوامر.


متى تتخلى إسرائيل عن الأساطير وأوهام القوة.. وتتعامل بالمنطق وبالواقعية مع العالم العربي ولا تضيع فرصتها التاريخية ومازال ذلك ممكناً..؟


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف