الثورة الإدارية المضادة!

في آخر اجتماع لمجلس الوزراء، منذ أيام تقرر بدء الإصلاح الإداري الشامل لأجهزة ومرافق الدولة، ومثل هذا القرار لا نستقبله بالتفاؤل عادة، أو بشعور بالمصداقية، نتيجة تجارب نصف قرن مع مجالس وزراء متعاقبة أعلنت جميعها بدء "الثورة الإدارية" وأطلقت عليها مسميات متعددة لتوحي باختلاف الهدف وصدق النيات.. فأسمتها "الانضباط الإداري".. و"هز الجهاز الحكومي" و"القضاء على الروتين".. وقال علماء الإدارة إن هذه الحكومات تحاول تعليم الفيل الرقص.. فقد تضخم الجهاز الحكومي.. واستفحل المرض فيه.. بحيث أصيب بحالة من تيبس المفاصل، وتصل الشرايين، وغيرهما من أمراض الشيخوخة، وأصبح من الصعب أن يعود هذا الجهاز الضخم.. المترهل الريفي.. المستسلم لمرضه إلى حالة من الرشاقة والحيوية تمكنه من الرقص..!.


ومع افتراض صدق النية هذه المرة، فهناك مشكلة كبرى تنتظر هذه الثورة حتى قبل أن تبدأ، يمكن تسميتها "الثورة المضادة".. ففي كل الثورات التي تقوم للقضاء على عوامل الفساد والتحلل والتخلف، ويتجمع تحت راياتها المخلصون والمنافقون، لقيادتها وتحقيق أهدافها، سرعان ما تواجهها العناصر التي ترتبط مصالحها بالأوضاع القديمة، وتتجمع وتنظم "ثورة مضادة" أما باستخدام أسلوب التسلل والمناورة لإجهاض الثورة، أو لسرقة قيادتها وانتهاز الفرص للوصول إلى الصفوف الأولى فيها، وأما أن تستخدم أسلوب المواجهة للدخول في تصادم صريح معها بهدف القضاء عليها.. هذا ما حدث مع كثل ثورة من ثورات التاريخ مهما اختلف زمانها ومكانها.. وهذا ما حدث أيضاً مع الثورة الإدارية.. ففي كل مرة تشرع الحكومة في تجديد شباب الجهاز الحكومي، وتسير في ذلك خطوات في الاتجاه الصحيح، سرعان ما تصاب بالجمود، أو يتولى قيادة الثورة الإدارية أعدى أعدائها، فتتحول إلى "ثورة مضادة".. وتحدث "النكسة" الإدارية.. ويزداد التعقيد في الإجراءات .. وتزداد الصعوبة على المواطن الذي يجد أن التعامل مع أي جهاز من أجهزة الدولة هو نوع من العذاب.. ولا يجد مفراً من الاستسلام لشروط وقواعد البيروقراطية، سواء بالرشوة، أو الوساطة، أو المحسوبية، أو باستخدام أي وسائل أخرى غير مشروعة توصل الحقوق إلى أصحابها وإلى غير أصحابها بسهولة وسرعة أكبر..!.


واعتقادي أن الحكومة الحالية لديها الرغبة في القيام بالمهمة المستحيلة، وإنجاز الثورة الإدارية التي فشلت عدة مرات قبلها، ولديها فرصة مواتية تتمثل في التغيير الأساسي الذي يحدث في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وقد يسمح بالتغير في الحياة الإدارية أيضاً.. كما أن هذه الحكومة تعتبر بشكل ما ثورة على سياسة تأجيل كل شيء وترك المشكلات تحل نفسها بنفسها.. وثورة على سياسة اختيار الحلول السهلة.. والحلول المؤقتة التي لا تظهر تداعياتها إلا بعد وقت.. سياسة هذه الحكومة – فيما يبدو من عملها حتى الآن – إنها لا تريد أن تعمل للحاضر فقط، ولكنها تسعى إلى بناء الأسس السليمة للمستقبل، وقد تدخل التاريخ إذا نجحت في ذلك.


والحكومة – أيضاً مضطرة إلى التفكير في هذه الثورة الإدارية، لأنه لا يستقيم أن يتحول الاقتصاد المصري إلى آليات السوق، وإزالة الحواجز أمام المشروعات الإنتاجية، وإطلاق قوى المنافسة، وإلقاء مسئولية التنمية على عاتق القطاع الخاص، ثم تعطي مقاليد الأمور وساطة التعطيل والإعاقة لجهاز إداري عتيق يعمل بعقلية متخلفة وبقانون للعاملين يفتقد الحزم وبلوائح قديمة وغامضة تعطي الموظف الحق في أن يجعل كل شيء مستحيلاً وكل شيء ممكناً حسب الأحوال (!).


وليس معقولاً أن نظل نتحدث خمسين عاماً عن ضرورة رفع كفاءة الجهاز الحكومي ومستوى خدماته، وعن تبسيط الإجراءات، والأخذ بنظم وأساليب الإدارة الحديثة التي تطبق منذ سنوات في الدول المتقدمة وبعض الدول المتخلفة (!).. ثم نبقى كل شيء كما هو ونكتفي بإنشاء بضعة مكاتب نموذجية، أو بفتح بعض المكاتب ساعتين بعد الظهر أو بزيادة الحوافز لبعض الموظفين، ونعتبر أنفسنا قد أنجزنا الهدف كاملاً..!


هناك إجماع على أن البيروقراطية في الجهاز الحكومي بكل مستوياته هي العائق الأول الذي يمنع وجود البيئة الآمنة للنشاط الاقتصادي، والعلاقات العادلة بين المواطن والدولة، وهي المسئولة عن ضياع نصف الوقت المخصص للعمل والإنتاج على الأقل لكل مواطن.. ففي الوقت الذي يحقق فيه المواطن في سنغافورة أو ماليزيا – ولا أقول أمريكا أو ألمانيا – ما يحتاج إليه من أجهزة الدولة بالبريد أو التليفون، يضطر المواطن العربي إلى ترك عمله أياماً متتالية – بطريقة مشروعة أو غير مشروعة – لاستخراج بطاقة شخصية أو بطاقة تموين أو ليسدد فاتورة التليفون (مع أخطاء الفواتير وجرائم الكمبيوتر) أو لإنهاء إجراءات الحصول على عداد إنارة أو مياه.. وكل جهة تفرض ما تشاء على المواطن دون أن يستطيع أن يسأل عن أساس أو مبررات ما تطلب.. ويكفي أن نرى فواتير استهلاك المياه والكهرباء التي تحسب وفقاً لقاعدة عامة معلنة وهي "الحساب الجزافي" وهذه القاعدة تسمح لمرفق المياه أن يطالب بقيمة ألف متر، بينما الاستهلاك الفعلي عشرة أمتار.. لأن المرفق يعطي نفسه الحق في عدم اعتماد قراءة العداد ووضع أي رقم عشوائياً وعلى المواطن أن يختار بين أن يستسلم ويدفع أو أن تقطع عنه المياه أو الكهرباء.. ولا يحدث ذلك مع المواطنين فقط ولكنه يحدث مع الشركات والورش والمصانع (أيضاً..!).


مثل هذا التسيب، واللاموضوعية، وفقدان الرقابة، ليس من السهل القضاء عليها.. وليس الحل في تعيين وزير للثورة الإدارية.. ولا في إنشاء جهاز جديد.. ولكن الحل هو أن يتحول مجلس الوزراء إلى "مجلس قيادة الثورة الإدارية".. ويواجه بحسم مشكلات متراكمة تحتاج إلى شجاعة وحزم مثل تضخم الجهاز الحكومي حتى وصل إلى ثلاثة ملايين ونصف مليون موظف.. مما يعوق العمل، ويجعل التنسيق والرقابة في منتهى الصعوبة.. ومثل تعدد الجهات التي تعمل في مجال واحد.. حتى مجال التنمية الإدارية ذاته (!) ومثل القوانين التي لا تحقق العقاب الرادع للموظف المهمل والثواب السريع للموظف الجاد ولا تعطي الرؤساء سلطات حقيقية.


وليس أدل على فشل بعض أجهزة الحكومة من أنها أصبحت تستعين بالقطاع الخاص لإنجاز أعمالها.. وآخرها هيئة النظافة بالقاهرة.. بعد أن وزعت إيراداتها على شراء سيارات الركوب للمديرين ومكافآت وحوافز للعاملين فيها.. بدأت في إسناد عمليات النظافة للشركات أجنبية (!).


ومن هنا نبدأ.. البداية ليست "الإصلاح" .. ولكن "التغيير" و"إعادة البناء" إذا أردنا أن ننجح هذه المرة.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف