معارك أحمد بهاء الدين

برحيل أحمد بهاء الدين فقدنا أحد العقول الكبيرة التي أسهمت في إقامة جسور من الفهم والمعرفة بين المصريين والعالم.. وفقدنا "مناضلاً" لم يلق سلاحه أبداً إلا حين سقط شامخاً ومنتصراً في كل معاركه.. ول تابعنا حياة وأفكار أحمد بهاء الدين فسوف نجدها سلسلة من المعارك، حتى وهو في أعلى المناصب قريباً من السلطة، لأنه كان تجسيداً للمبدأ الذي كان يردده الحكيم العربي القديم: أحب فلاناً.. ولكنني أحب الحق أكثر"، ولأنه كان لا يساير ولا يناور ولا ينافق عاش حياة صعبة تحمل فيها ما لا يحتمل البشر، حتى أصيب بجلطة في المخ عولج منها، ثم جاءت الثانية التي لا تحتمل.


أصابته الجلطة في المخ مرتين ليس بسبب العمل الصحفي المرهق ليل نهار، فهو كما قال: لا أتعب من العمل الصحفي، بل أشعر في نهاية أي يوم مهما طال من العمل الصحفي المحض بنشوة وراحة نفسية، وأظن أن هذا هو حال من يزاول عملاً يحبه، ولعل أكسير الحياة وأحسن علاج للصحة هو أن يشعر المرء أنه يحقق ذاته في عمل خلق له، ولكن الإرهاق الحقيقي يأتي من التوتر والقلق والضيق وعدم اليقين وخطورة المزالق وغير ذلك مما يحيط بالعمل، وليس العمل نفسه، وإنني أستشهد دائماً بكلمة سمعتها من شاعر مصري شارد مهاجر في آفاق الدنيا الواسعة دون أن يرى مصر منذ حوالي ثلاثين سنة، هو الشاعر عبد الرحمن الخميسي وقال لي ملخصاً مشاكله: إنني أضيع جهدي أدافع عن قيثارتي، ولا أعزف الحاني.


هكذا كان أحمد بهاء الدين مع الأسف وكل من سار على طريقه من المخلصين للبلد، والقادرين على العمل، والناجحين..يضيع الجهد في مواجهة المكائد والدسائس والمعارك مع ضعاف النفوس ومن نسميهم "أعداء النجاح" ومن يمكن تسميتهم أعداء الإخلاص أيضاً وهكذا سقط مرتين.. في الأولى عولج في المستشفى الجوي الأمريكي، وكانت نصيحة الأطباء أن ينقطع عن العمل نهائياً ويعيش في مكان هادئ بعيد، لكنه عاد إلى معارك الفكر والرأي فسقط مرة أخرى بنزيف في المخ أفقده القدرة على التفكير والتفاهم، وكأن القدر أراد له أن يعيش فترة هادئة بلا معارك.


وقد يدهش البعض أن أحمد بهاء الدين كان قريباً من فكر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقدم لنظامه خدمة حقيقية كمفكر مساند لقضايا ومبادئ ومواقف هذا العهد، ومع ذلك واجه المكائد والمتاعب بما لا يمكن تصوره، وبقدر ما كان قريباً من الرئيس الراحل أنور السادات، وقدم لنظامه من خدمات سياسية وفكرية حتى انتهى الأمر على حد تعبيره أن الرئيس السادات في خلال ثماني سنوات قد صادقني مراراً، ونقلني من مكاني كعقاب مرة، وفصلني من العمل الصحفي مرة، وأوقفني عن الكتابة مرتين، وكان هذا الصعود والهبوط، المتوالي مصدر حيرة لكثير من السياسيين والزملاء الصحفيين والقراء.


هذا رغم أن أحمد بهاء الدين ليس مثل كثير غيره.. أنه كما قال عن نفسه في رسالة إلى السادات: لقد اخترعت الثورة صحفيين وكتاباً ودكاترة في كل مجال، ولكنني لست أحد اختراعات الثورة، وقد كنت رئيساً لتحرير أكبر جريدة في مصر وهي أخبار اليوم، وأتقاضى أقصى حد للمرتب قبل تأميم الصحف بسنتين ..ولكن أحمد بهاء الدين كان قلعة حصينة.. وكان على تواضعه الشديد يعرف قيمة نفسه وسط الغوغاء ذوي الأصوات العالية والادعاءات المجلجلة والنفخة الكدابة، ولم يكن تكوينه تكوين رجل يصلح في بطانة، أو يجيد الطبل والسير في كل زفة، ولكنه كان مفكراً صاحب رأي ورؤية.. صاحب موقف.. لا يقول إلا ما يؤمن به، ولا يفعل إلا ما يتفق مع مبادئه، ولا يكتب كلمة واحدة بخلاف ما يعتقد.. وكان هذا هو الفرق بينه وبين الشهب التي لمعت بغير أساس ولا جوهر.


كانت مشكلة أحمد بهاء الدين طوال حياته الصحفية أنه لم ينضم إلى "شلة" في الحكم أو الصحافة، وكان دائماً بعيداً عن الصراعات لأنه كان يراها صراعات سلطة وليست صراعات آراء وسياسات، ولذلك لم يكن غريباً أن يوجه النقد إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي في بداياتها غير المنظمة التي سماها سياسة "السداح مداح وكل شيء مباح".. ولم يكن غريباً أن ينقد سياسات الإسراف في إنفاق المال، والتهاون مع لصوص أراضي الدولة، وينبه إلى وجود ثلاث فئات من المستثمرين: فئة تقوم "استثماراتها" على نزح الأموال من مصر إلى الخارج، وفئة تقترض من المال المتوافر في مصر فعلاً، أي من البنوك، وهو مال وفير ومعطل، ويقومون باستثماره في مصر، وهؤلاء لهم الشكر الجزيل، وفئة تأتي بأموالها من الخارج إلى مصر فيكتشفون أنهم وقعوا في شراك شتى تبدأ من البيروقراطية وتمتد إلى الابتزاز..


وكانت ضمن معارك بهاء الدين أن ينبه إلى أهمية "سمعة الشعب" بقدر أهمية "سمعة الحكم" لأننا نسقط كل المشاكل والعيوب على السلطة أياً كانت، ولا نتحدث عن دورنا في هذا المجال، وكل شعب له "سمعة"..زمان كان يقال عن شيء ما إنه "ياباني" بمعنى أنه "فالصو"، وكان ذلك واليابان غير يابان اليوم، الآن عبارة "صنع في اليابان" صار لها معنى الدقة والكفاءة والتقدم، وهذه هي السمعة العامة التي خلقها الشعب الياباني بنفسه، ومنذ زمن أبعد والناس يقترن في ذهنها الشعب الألماني مثلاً بالدقة والعمل الشاق والإنتاج الجيد، وهذه "السمعة" تغني عن ألف إعلان عن سلعة في بلد من هذا النوع، وهذا يجعلنا نتفحص عيوبنا كما نتفحص عيوب السلطة، ونهتم بسمعة الشعب كما نهتم بسمعة الحكم، ولا نتملق صفاتنا الذاتية كمصريين، ونترك ذلك للأغاني، ونلتفت إلى تغيير أشياء كثيرة لكي تكون من صفاتنا مثل: النظافة، وأداء الواجب، والدقة في المواعيد، والتخلي عن الإسراف المظهري، واكتساب عادة "الادخار" وحسن التعامل مع السياح، وحين نرفع شعار التصدير فإن أهم وسيلة للنجاح هي أن يكون لإنتاجنا "سمعة" بالجودة، وأهم من ذلك يجب أن نتعلم أن ننقد أنفسنا كشعب كما ننقد الحكام!.


هذا هو أحمد بهاء الدين: عقل كبير.. وأستاذ له قيمة في ذاته لم يكتسب قيمته من منصب أو بالاقتراب من السلطة.. وفيه شجاعة محارب فدائي .. ضحى بنفسه.. ولم يرض التضحية بمبادئه وأفكاره.. وسقط شهيداً.. وأصبحت له –عند الله– منزلة الشهداء.


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف