إسلاميات طه حسين [1-4]

كان طه حسين واحدًا من قادة الفكر الكبار كانت له رسالة كرس نفسه للقيام بها، وكانت رسالته هى إيقاظ ، العقول، والسير على طريق الطهطاوى والأفغانى ومحمد عبده لنشر فكر التنوير والدعوة إلى الإصلاح.. الإصلاح السياسى.. والإصـلاح الاجتماعى.. والإصلاح الثقافى.. وقبل ذلك كله الإصلاح الدينى، لذلك كان يخوض حربًا ضد الدعاة الأدعياء الذين يستخدمون الدين _ عن جهل أو عن سوء قصد وسيلة لتضليل الناس عن الدين الصحيح حتى كادوا يضلون الناس ويفتنون العامة فى دينهم.
ظل طه حسين على مدى ستين عامًا يحوز من الجمود والتعصب ومن الذين يستسهلون الحكم بالكفر على المسلمين وينصبون أنفسهم قضاة ويحاكمون الضمائر والقلوب، ويكرر القول بأن أيسر شىء على بعض الناس أن يرمى غيره بالكفر والمروق من الدين كأنما مفاتيح الجنة والنار فى يده يدخل فيها من يشاء ويبعد عنها من يشاء مع أن الله سبحانه انبأنا بأن الحكم بالايمان أو الكفر ليس من اختصاص أحد من البشر إن شاء وهب الإيمان وإن شاء استرده انبأنا الله سبحانه أن سبيل الإيمان واضحة للناس جميعا، ولا سلطة لأحد على أحد فى الحكم بالإيمان أو بالكفر، فالله وحده هو الذى يحكم بين الناس ويحاكمهم يوم القيامة وإن شاء غفر وسامح وإن شاء عاقب وعذب.. ولا يعرف الإسلام لأحد من الناس الحق فى السيطرة على العقيدة، والهيمنة على القلوب، وإنما ذلك حق الله وحده ولا شريك له فى ذلك.
وكان يحذر من أن يتطاول المدعون ويتجرأ على الله فيقفوا على المنابر ليعلموا الناس أمور دينهم اعتمادا على ما قرأوه فى كتب قديمة وقعت فى أيديهم، فيبيحوا لأنفسهم أن يشرحوا القرآن، والقرآن يحتاج إلى أن يشرحه ذو بصيرة واستيعاب لعلوم اللغة والتفسير والسيرة، وأن تكون لديه ملكة تجعله يقف عند صوره وآياته متدبرًا مستبصرًا، ويتبين ما تميز به القرآن من الملاءمة بين المعانى والألفاظ والأساليب.
وكان يرى أن الأزهر هو المؤسسة العلمية الوحيدة القادرة على إعداد رجل الدين المؤهل لتعليم الناس شئون دينهم عن علم وبصيرة ولذلك كتب يقول: «إنى أحب الأزهر، وحب الأزهر متأصل فى نفسى» وهذا الحب هو الذى كان يدفعه إلى نقد مناهج التعليم الأزهرية القديمة والإلحاح فى الدعوة إلى أن يأخذ الأزهر بمناهج التعليم الحديثة، وأن يضطلع بمسئوليته عن تنقية الكتب القديمة من آثار عصور التخلق والجمود التى أضافت إلى الدين كثيرًا من الخرافات والأساطير، ويقول إنه يتمنى مخلصًا للأزهريين ولعلمائهم خاصة أن يلتزموا بالقرآن والحديث بأكثر مما يعتمدوا على كتب الفقه وكتب المفسرين المتأخرين (فى عصور الانحطاط والتخلف) فإن الإلتزام بالقرآن والسنة كفيل بدعوتهم إلى سماحة الرأى وسماحة الخلق وأخذ الأمور باللين.
***
وكان طه حسين هو صاحب الدعوة المبكرة لترجمة معانى القرآن حرصًا على تقديم الإسلام فى صورته الصحيحة لمن لا يجيدون اللغة العربية فى إنحاء العالم، وعدم ترك الساحة العالمية لمترجمين من غير أبناء الأزهر بل ومن غير المسلمين ليقدموا معانى القرآن مشوهة إما لعدم الألمام بدقائق اللغة العربية عامة وبدقائق اللغة القرآنية خاصة، وإما لنواياهم السيئة فى تقديم القرآن والإسلام بصورة تنفر الغربيين منهما ويضرب بذلك مثلا فى كتاب أديب إيطالى كتب عن الإسلام والقرآن فجاء كتابه مليئًا بإساءة الفهم لآيات من القرآن ولأنه إعتمد على ترجمات لمعانى القرآن قام بها مترجمون اساءوا أبلغ إساءة إلى الدين الإسلامى مما يجعل ترجمة معانى القرآن واجبًا على المسلمين أنفسهم وعلى المؤهلين منهم بصفة خاصة ونتيجة لإلحاح طه حسين بدأت تظهر ترجمات لمعانى القرآن قام بها مسلمون مؤهلون.
***
كان طه حسين ينبه إلى أن الإسلام دين عمل، وأن مفهوم الجهاد ليس مقصورًا على الحرب والقتال ولكنه يشمل إصلاح أحوال المسلمين، فالجهاد فى العلم، وفى المصنع والمزرعة وجهاد الطالب فى أن يحسن الاستفادة مما يتعلمه.. والإسلام ضد الجمود العقلى والوقوف عند ترديد ما قاله الأقدمون وكأن المسلمين ببغاوات بلا عقل يفكر. ويضيف: الإسلام يدعو إلى احترام العقل ورفعه إلى مكان عال، ويحث المسلم على التفكير والتدبر، والايمان الدينى_ عند طه حسين طاقة هائلة قادرة على تقييد الفرد وتقييد المجتمع إلى الأفضل، فلقد تغير الصحابة بعد أن اسلموا ودخل الإسلام قلوبهم أبو بكر الذى عرفه العرب فى الجاهلية غير أبى بكر الذى عرفوه بعد أن أسلم أبو بكر خلق خلقًا جديدًا واكتسب شخصية لم تكن له من قبل قوامها الإيثار والوفاء والثبات الذى لا يعرف ترددا.
وما يقال عن أبى بكر يقال عن عثمان حتى يمكن أن نقول إنه ولد يوم أسلم وكذلك عمر بن الخطاب كان شديد القسوة فى الجاهلية فصار رقيق القلب سريع البكاء كلما قرئت عليه آيات الترهيب من القرآن.. وكان يبكى حين يرى ما فيه النبى صلى الله عليه وسلم من شدة العيش وقسوة الحياة المادية .
وهكذا تعقب طه حسين الطاقة الروحية الهائلة التى اكتسبها المسلمون بإسلامهم، وفى كتابه (الوعد الحق) يصور كيف أن الإيمان الصادق جعل المستضعفين من العبيد والموالى يتحملون فى صبر وجلد من العذاب الذى يتفتن فيه سادة الكفار فى قريش ولا يتحمله بشر.. الإسلام طاقة روحية.. الإسلام يعطر المسلم قوة تفوق قدرة الإنسان.. الإسلام طاقة للبناء والإصلاح وتعمير الأرض وتحسين حياة الناس كافة.
***
وكان طه حسين يكرر أن أمام المسلمين أن يدركوا أنهم تخلفوا.. تحالف حكم الجهلاء والمستبدين والاغبياء وفرضوا على الناس جهلهم وغباءهم فتخلف المسلمون وتقدم غيرهم بالعلم والفكر والثقافة وبإرادة التجديد والتغيير، وأصبحت هناك مسافة بين المسلمين والعالم المتقدم الذى يعيش بالعلوم الحديثة، وأمام المسلمين إما أن يدركوا أن هناك مسافة بينهم وبين الأجيال القديمة من المسلمين، ومسافة بينهم وبين الأمم الحديثة المسيطرة على مقادير العالم الحديث، وعلى المسلمين أن يعلموا أن الطريق طويلة وشاقة إذا أرادوا الوصول إلى ما وصل اليه غيرهم ويحققوا الرقى، والتقدم، وعليهم أن يختاروا بين أن يظلوا كما هم أيقاظا فى الظاهر وهم ينامًا فى الحقيقة، وإما أن يبدأوا بعزيمة صادفة وبجدية لا تعرف التكاسل أو التخاذل لكى يستدركوا مافاتهم حين تجمدوا فى مكانهم وتحرك الناس بسرعة.
كان طه حسين يكرر كثيرًا أن المشكلة تكمن فى أن البعض لا يعرف من الدين إلا ماوجده فى كتب قديمة تعبر عن فكر مرحلة من مراحل الجمود والتخلف والسطحية مرت بالمجتمعات الإسلامية، وبسبب ذلك اتخذوا موقف العناد أو العداء من العلوم الحديثة، ويشير طه حسين إلى المتاعب والمكائد التى تعرض لها محمد عبده حين حاول ادخال بعض العلوم الحديثة فى مناهج الأزهر، وكيف كان محرمًا على طلبة الأزهر معرفة شىء من علوم الفيزياء أو الاحياء أو الرياضيات وغيرها، وأكثر من ذلك كان طه حسين يرى أن طريق الإصلاح ، وأن عصر النهضة للعالم الإسلامى يرتبطان بأن يفهم المسلمون القرآن فهما صحيحًا ويعملوا به، لأن القرآن بين أيدى الناس يقرأونه، ويتعبدون به، ولكن لا يعملون به، والذين يفهمون القرآن حق فهمه يمكن إحصاؤهم، وويل للعلم بالدين إذا لم يؤثر فى الضمائر ولا يؤدى إلى العمل لإصلاح أحوال البلاد والعباد.
كانت رسالته تتخلص فى دعوة المسلمين إلى أن يخلصوا عقولهم وقلوبهم مما أصابها من التقليد والجمود وما استقر فيها من الأوهام والأساطير والأكاذيب، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف