مأزق نيتانياهو؟!
يلاحظ المراقب لأقوال وأفعال رئيس الوزراء الإسرائيلي اتجاهاً مختلفاً عما كان عليه عند بدء تولية السلطة..لهجة الاستغلاء والغرور أصبحت أقل قليلاً.. وانتهت التهديدات العشوائية للعرب إلى حد تهديدهم جميعاً بأنهم يسيرون على يديه أياماً صعبة..! واللاءات التي كان يلوح بها لم تعد تتكرر في أحاديثه.. وبدأت نغمة جديدة: حديث عن استئناف المباحثات مع سوريا والفلسطينيين...استعداداً لتسليم الخليل مع مناورة مكشوفة إعلان لمشروعات مشتركة في ظل السلام المرتقب.. هل تغير نيتانياهو.. أو هل من الممكن أن يتغير.. أم أن الظروف من حوله هي التي تغيرت.. أم أنه رأى الآن من الواقع المحيط به ما لم يكن يستطيع رؤيته..؟
عندما بدأ نيتانياهو عمله كرئيس للوزراء كان واضحاً أن النجاح الذي حصل عليه قد أدار رأسه وأفقده التوازن.. وأعطاه إحساساً مضللاً بالقوة المطلقة أنه ظل يستطيع أن يفعل أي شيء وكل شيء.. خاصة أنه أول من يتولى منصب رئيس الوزراء وهو منتخب مباشرة من الشعب لهذا المنصب. وفضلاً عن ذلك لم يكن قد أدرك بعد الفرق بين دوره كسياسي يتزعم حزباً في المعارضة واجبه أن يرفض كل شيء.. وأن يعارض كل شيء لينال إعجاب من يبحثون لإسرائيل عن بطل يعيد صورة الرئيس الأمريكي كيندي، وصورة عبد الناصر أيضاً ولكن على الجانب الإسرائيلي هذه المرة.. وموقف الرفض والمعارضة سهل، والزعيم الذي يصنع زعامته عن الرفض والمعارضة هو في الحقيقة زعيم وهمي سرعان ما يقود بلده إلى الخراب.. وإذا كان نيتانياهو قد قام بهذا الدور وهو في المعارضة ببراعة جعلت الإسرائيليين يرون فيه نموذج البطل اليهودي الأسطوري الذي يداعب خيالهم منذ قرون، فلم يكن ممكناً أن يستمر فيه لأن منصب رئيس الوزراء يفرض عليه واجبات والتزامات وتحيط به ضغوط خارجية وداخلية وضغوط من الكنيست والأحزاب والمنظمات المختلفة والرأي العام.. كان ممكناً في البداية أن يبدي نيتانياهو الاستهانة بالواقع وضروراته، ولكن ذلك لم يعد ممكناً والواقع يفرض ضروراته.. وسواء كانت هذه الاستهانة عن جهل (نتيجة قلة الخبرة السياسية وصغر السن)، وعن تجاهل (نتيجة تكوين شخصية نيتانياهو غير الواقعية ورؤيته النرجسية لنفسيته)، فإن المأزق الذي وجد نفسه فيه، فرض عليه ضغوطاً لم يعمل حسابها، رغم أن هذا المأزق من صنعه هو بالدرجة الأولى.
فلقد تأثرت الحياة الاقتصادية في إسرائيل بلهجة التشدد التي اتخذها وهددت بالعودة إلى حالة اللاحرب واللاسلم، وأظهرت أن عملية السلام يمكن أن تعصف بها الأطماع الإسرائيلية، فشهدت البورصة تراجعاً وبدأت رءوس الأموال في إعادة النظر في الاستثمار في إسرائيل، كما تأثرت الصناعة والزراعة بإجراءات حظر تنقل الأيدي العاملة الفلسطينية للعمل في إسرائيل، وبدأ المواطن الإسرائيلي يشعر بأن الأيام الصعبة التي يهدد نيتانياهو بها العرب ستكون من نصيب الإسرائيليين أولاً.. وأن النار التي يشعلها للعرب سوف تحرق أصابعه وربما أكثر..! وأن استعادة أجواء التوتر والقلق والحرب الباردة أو الساخنة في المنطقة سيكون أمراً خطيراً ليس من السهل تداركه.. ولعل نيتانياهو قد فهم الآن أن إسرائيل مهما بلغت من القوة العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية فلن تستطيع أن تنفرد وحدها بوضع السياسات أو باتخاذ القرارات أو بتحديد مصائر الدول والشعوب في المنطقة.
لقد اصطدم زهو رئيس الوزراء الجديد بالحقائق.. لأن شخصيته تتميز بعدم القدرة على إدراك الواقع كما هو، وأنه يرى الأمور كما يجب أن يراها، فقد اتسمت استجابته للواقع بالبطء، ولكنه سوف يجد نفسه مضطراً في النهاية إلى أن يسير في الطريق الذي لا يمكن تحقيقه بحرمان العرب من الأمن والقوة.
واصطدم أيضاً بالوحش الذي أطلق له العنان، وهو تيار الجماعات الدينية المتشددة والمتطرفة العدوانية التي لا يقف تطرفها عند حد ولا يمكن إرضاؤها مهما بالغ في مسايرتهم.. وهؤلاء يرفضون المبدأ الذي يطرحه العرب الآن وهو: "عش ودع غيرك يعيش" بمعنى أن الحقوق التي تطالب بها إسرائيل لنفسها يجب أن تكون للعرب أيضاً، وبناء على ذلك لا يمكن مطالبة سوريا بالتنازل عن جزء من أرضها، أو التنازل عن أمنها، أو قبول التهديد على حدودها مقابل أن تحصل إسرائيل على الأرض والأمن والرخاء، ولا يمكن مطالبة الفلسطينيين بقبول الحرمان من كل حقوق الإنسان، ابتداء من الحق في لقمة العيش إلى الحق في العمل، والحق في التنقل، والحق في التعليم.. الخ ويعطون لإسرائيل ما تطلبه من الأمن والاستقرار والهدوء لتتفرغ لبناء قوتها..! وربما أدرك نيتانياهو الآن أن السخط الفلسطيني سيصل إلى الدرجة التي ستصبح فيها السلطة الفلسطينية عاجزة عن كبحها.. وسيمتد طوفان السخط على السلطة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية أيضاً.. ولن يكون السخط مثل انتفاضة الثمانينات ولكنه سيكون شيئاً آخر يصعب التنبؤ بصورته ومداه وآثاره..
ثم أن تكوين مجلس الوزراء الإسرائيلي نفسه يفرض على نيتانياهو ضغوطاً ومصاعب، فهو مجلس حرب أكثر منه مجلس سلام.. وهو مجلس أعداء أكثر منه مجلس تنسيق.. وكل واحد في هذا المجلس له فلسفته وأهدافه وطموحه.. وإن كان يجمعهم التشدد.. مما سيجعلهم يزايدون ويبالغون في التشدد.
وإذا كان نيتانياهو يلعب بورقة انشغال الإدارة الأمريكية في معركة الانتخابات فسوف تنتهي هذه المعركة بعد شهور وتجد الإدارة الأمريكية نفسها أمام التزامات وقعت عليها وعهوداً رسمية أعطتها ومصالح لابد أن ترعاها على المدى البعيد.
وليس أمام نيتانياهو – بعد فترة – للخروج من هذا المأزق إلا أن يهبط من سماء أحلام اليقظة وخيالات وهلاوس النصر الانتخابي، ليساير ضرورات الواقع، ويتحرك في الاتجاه الصحيح.. مع تيار السلام .. ويستثمر المناخ الذي تولد بصعوبة في البلاد العربية بقبول إسرائيل كدولة من دول المنطقة، وتصديق إنها تريد التعايش مع العرب في سلام وعلى قدم المساواة ..لأن هذا المناخ إذا تغير.. فسوف تكون نكسة صعبة.. وسيكون هو المسئول عنها.. ولن يستطيع القادة العرب أن يقهروا شعوبهم على قبول ما لا يمكن قبوله.