هناك أكثر من سبب جعل مشاعر الوطنية تستيقظ وتستعيد تأثيرها في السلوك العام. ربما كان ذلك مع زخم ذكريات ثورة 23 يوليو وبعد أن تعرضت لحملة ضارية لتشويه صورتها والإساءة إليها، وربما أيضاً كرد فعل للانتكاسة في السياسة الإسرائيلية والعودة إلى لهجة الصلف وإغلاق أبواب الأمل أمام الفلسطينيين والسوريون وبالتالي أمام العرب ككل..وربما نتيجة الإحساس بأن البلد يخوض الآن معركة من أجل تحقيق حلم كبير هو إقامة صناعات جديدة، واستصلاح الصحارى، وتعمير سيناء، وتغيير صورة الحياة في مصر بالكامل.. وهذه المعركة تحتاج إلى تضحيات لابد منها.. وقد تكون هناك أسباب أخرى.
وأياً كانت أسباب هذه الانتفاضة الداخلية فإن الواجب يقتضي توظيفها لصالح إنجاز الأهداف القومية في البناء والتنمية والإصلاح، وحشد المشاعر المستثارة الآن وراء القضايا الوطنية، وبخاصة بالنسبة للشباب، ويقتضي ذلك أولاً البدء بعمل سياسي منظم للوصول إلى قطاعات الشباب وتنظيم جهوده للعمل التطوعي..فالبلد يحتاج إلى إيجاد مناخ للعمل فيه الحماس واليقظة والاستعداد للتضحية ودون انتظار لمصلحة شخصية.. تحتاج إلى إيقاظ الشعور بالمسئولية الاجتماعية لدى الشباب.. وهذا يستلزم تعبئة عامة لا تستطيع أن تقوم بها الأجهزة الحكومية القائمة الآن بوضعها الحالي، ولا تستطيع أن تنهض بها الأحزاب بما آلت إليه من استرخاء وفقدان الروح والتماسك. مما يستلزم التفكير في إيجاد جهة جديدة، لا تخضع للإشراف الحكومي المباشر والروتين، ولا تخضع لجماعات المصالح، ولا لصراعات القوى والأشخاص حول مناطق النفوذ، ولكن تخضع فقط للرغبة في العمل التطوعي دون انتظار الثمن.
وفي الستينيات كانت لدينا منظمة الشباب، وكانت منظمة سياسية وظيفتها تجنيد الشباب، وإخضاعه لسلسلة من الاختبارات لاختبار العناصر الصالحة للقيادة، ذات القدرة على التفكير الوطني المستقل، والإرادة المخلصة في القيام بالعمل العام والخدمة الوطنية. وكانت معسكرات المنظمة تقيم دورات للتثقيف السياسي ومن خلال الحوارات والمناقشات كان يتم تقويم كل شاب وخصائص فكره وسلوكه واتجاهاته الخلفية.. وبعد ذلك كانت المنظمة تنفذ مشروعات للعمل يتطوع فيها الشباب لإصلاح الطرق، وبناء المدارس، واستصلاح الصحارى، والنظافة العامة، وتوعية المواطنين بالسلوك الاجتماعي السليم، وإرشادهم إلى تنظيم الأسرة وهكذا..
والآن، وبعد مرور كل هذه السنوات يقتضينا الاعتراف بأن هذه المنظمة حققت نجاحاً ملحوظاً في تربية كوادر تعمل بروح الوطنية، وبالرغبة في الخدمة، وبالاستعداد للتضحية، وبعدم القابلة للفساد، رغم أن هذه المنظمة تعرضت لهجوم شديد أصاب كل من شارك فيها بالضرر النفسي والمادي والاجتماعي، إلا أن الخميرة الأولى مازالت باقية، مع الوضع في الاعتبار بأن كوادرها قد تجاوزت مرحلة الشباب وأصبحت في مرحلتي الكهولة والشيخوخة حسب الأحوال..
كان وجود هذه المنظمة في الستينات منطقياً مع وجود الاتحاد الاشتراكي، فكان التنظيم السياسي الواحد لا يسمح إلا بوجود تنظيم واحد أيضاً للشباب، وأدى ما حققته هذه المنظمة من نجاح إلى اشتداد الهجوم عليها إلى حد اتهام قياداتها باتهامات جعلتهم يقفون أمام نيابة أمن الدولة بتهمة التخابر مع دول أجنبية، وكان ذلك جزءاً من تصفية الحسابات بعد ظهور مراكز القوى.
الآن تغير الوضع السياسي في مصر.. انتهت مرحلة التنظيم السياسي الواحد ولا تفكير في العودة إليها، وانتهت مرحلة إشراف وسيطرة الأجهزة الإدارية للدولة على العمل السياسي، ولكن الحاجة إلى التثقيف السياسي للشباب لتحصينه ضد المؤامرات السياسية والفكرية التي تظهر في صورة أفكار واتجاهات دينية متطرفة تنتهي إلى اعتناق الإرهاب أسلوباً للتغيير..وتصل إلى حد النجاح في غسيل مخ جماعات من الشباب وزرع أفكار هدامة ومعادية للمجتمع وللتطور، أو إلى دفع الشباب إلى التحلل الفكري والاجتماعي والأخلاقي، وإلى السلبية، وفقدان الإيمان بالوطن، ونشر اللاانتماء وعدم الولاء بدلاً من غرس روح التضحية من أجل الوطن.
هناك مخاطر قائمة يتعرض لها الشباب المصري لا يمكن إنكارها، والشواهد عليها كثيرة، وبقاء الحال على ما هو عليه ينذر بشرور كثيرة لأن هذه المخاطر تزيد ولا تنقص..والعدوان على عقول الشباب مستمر، وهو يكسب كل يوم عناصر جيدة في غياب عمل علمي منظم مضاد لهذه الهجمة.
ما العمل...؟
لا أحد يدعو إلى إعادة منظمة الشباب كما كانت في الستينات، فقد تغير الزمن والظروف والبشر، وما كان يصلح في بدايات الستينات لا يصلح لنهاية التسعينات، ولكن الممكن الآن هو إيجاد صيغة توصلنا إلى الهدف بوسيلة أخرى تناسب الزمان والظروف المتغيرة، تحتاج إلى صيغة أو إطار يجمع العناصر النشيطة من الشباب، ويقدم لها الفكر السياسي والاجتماعي والديني الصحيح، من خلال الحوار وليس بالتلقين، وبالتطوع وليس بالحشد الإجباري، وبالإقناع وليس بالترغيب والترهيب، ولغاية نبيلة هي الخدمة العامة وليس للحصول على مزايا، وفي ارتباط بخطة للعمل، لكيلا تكون المسألة مجرد كلام وأحاديث ومحاضرات، ولكن لابد أن يترجم الإقناع إلى عمل لخدمة البلد، فيجد الشباب مجالات ليشارك في الإصلاح وخدمة المجتمع، ومجالات للتعبير عن الرأي الحر، والمشاركة في اتخاذ القرار، والتدريب على تحمل المسئولية العامة.
هذه الصيغة تحتاج إلى تفكير قبل الرفض والتهجم عليها..
وأعتقد أن رفضها سيكون أسهل لأن تنفيذها يحتاج إلى مجهود وتضحية كبيرين وإلى كوادر من نوع خاص ليس من السهل التوصل إليها.
الصعوبة الحقيقية أن من يتصدى لهذا العمل يجب ألا يكون مشغولاً بتنمية نفسه، أو البحث عن منصب أو جائزة، ولا ينتظر الثمن إلا من داخله.. من رضا الضمير والشعور بأداء الواجب.. وهذا هو مفهوم الوطنية الصحيح الذي يحتاج إليه من قياداته ليكونوا قدوة له..والقدوة ليست شيئاً سهلاً .. وإن كانت شيئاً ضرورياً .. بل إن النهضة في أي مرحلة من مراحل التاريخ البشري لم تتحقق إلا حين توافرت القدوة .. ليس في شخص رجل واحد.. ولكن في رجال كثيرين يمثلون إشعاعاً يجذب الآخرين ويجعلهم يحبون أن يكونوا مثلهم في التضحية من أجل الوطن.. وإغماط النفس حقها من أجل أن يحصل الآخرون على حقوقهم.. وبذلك تتحقق الدعوة إلى الصحوة الكبرى التي نادينا بها منذ سنوات، ومازلنا تنادي بها إلى اليوم.