روح ثورة يوليو الباقية

اليوم بعد مرور 4 عاماً على قيام ثورة يوليو في عام 1952، وبعد ربع قرن تقريباً من رحيل قائدها عام 1970 مازالت جذوة هذه الثورة باقية في أعماق الضمير الشعبي المصري والعربي.. وإن كانت محاولات أعداء الثورة قد أدت إلى تشويه هذه الثورة في الظاهر إلا أنها لم تستطع اقتلاع جذورها أو القضاء على جوهرها.. وككل ثورة كبرى في التاريخ يختلف الناس حولها، ويسعى بعضهم إلى اغتيال كل إنجازاتها، ويحاول الإيحاء بأن كل ما فعلته كان خطأ وانحرافاً.. وككل ثورة كبرى في التاريخ يستطيع المزيفون أن يزيفوا الحقائق .. ولكن جرائم التزييف والتزوير ومشاعر الكراهية لأسباب شخصية أو لرغبة في الثأر وتصفية الحسابات.. كل ذلك يأتي يوم – قريب أو بعيد – وينتهي.. وتبقى الحقيقة دائماً بعد أن تصمت ألسنة الكذب.


هناك اتفاق على أن ثورة يوليو غيرت مسار الحياة المصرية والعربية، وارتكبت في نفس الأوقات أخطاء لا يذكرها ولا يدافع عنها أحد، وهناك اتفاق على أن الوقت قد حان لكي ننظر إلى هذه الثورة بمقاييس العقل والحكمة ومصلحة الوطن..وهذا يقتضي أن نفرق بين "الجوهر" و"العرض".. بين "الباقي" و"الزائل".. بين المبادئ و"الأشخاص".


بين ما تعتبر الثورة مسئولة عنه وما يتحمل أعداؤها المسئولية عنه.

بين "مقاصد الثورة" و"أسلوب" أو "وسائل" اتبعتها الثورة لبلوغها.. وأخيراً لابد أن نفرق – بعد رحيل الرجال الزائلين وبقاء الوطن بعدهم وإلى يوم الدين – بين "روح الثورة" وهو ككل روح لا تفني ولا تتبدد وبين "أعمال الثورة" وهي بالطبع قابلة للمراجعة والتراجع وإعادة الحكم والنقض .. الخ.


ودون دخول في تفصيلات معروفة.. ودون محاولة الدفاع عن أشخاص هم الآن بين يدي الله يسألون عما فعلوا ويجزون عليه.. وغداً ستكون لكل منهم صفحة في التاريخ تسجل بالأنصاف لهم أو عليهم كل ما فعلوا.. فإن "روح" ثورة يوليو مازالت باقية.. بل هي الآن أقوى مما كانت في الخمسينات والستينات..لأنها الآن أصبحت مجردة من الأسماء والأشخاص.. ومنزهة عن الأخطاء والسلبيات.. وتسمو على أطماع الدنيا الزائلة.. هي الآن "روح" تسري في كيان الأمة.. لا تستطيع أن تراها.. أو تلمسها.. ولا تستطيع أن تفصيلها عن بقية مكونات هذه الروح من نتاج القرون السابقة.. ابتداء من ثورات الفراعنة .. إلى ثورة الروح الإسلامية.. إلى ثورة عرابي.. وثورة 1919 .. طبقات بعضها فوق بعض من الأفكار والقيم والتجارب.. ثورة يوليو أضافت إلى الضمير المصري والعربي ولكنها لم تخلقه من العدم.. فقد كان قبلها رصيد شديد الثراء.. وجاء بعدها عمل كبير أضاف أيضاً إلى الرصيد القومي العام.


وفي اعتقادي أن "روح ثورة يوليو" يمكن تلخيصها فيما يلي:


أولاً: إحياء الروح الوطنية المصرية.. واستعادة الإحساس بقيمة الانتماء إلى هذا الوطن.. واعتبار الوطن أهم وأغلى من كل الأشخاص.. وقبول المعارك بما تسفر عنه من انتصارات وهزائم هو مادامت لأغراض وطنية وليست لأغراض أو مطامع شخصية.. ومع هذه الروح جاء نمو الإحساس بأن هذا الوطن مستهدف وله أعداء يريدون النيل منه بالقوة أو بالحيلة أو بإفراغه من عوامل القوة وأولها وأهمها قوته البشرية.. وصلابة الإنسان المصري.. هذه الروح الوطنية التي عبرت عن نفسها بالأناشيد ورفع الأعلام "ترجمت ذلك عملياً في معارك قدم فيها صفوة من شباب مصر أرواحهم دون تردد.. وهذه الروح هي التي جعلت المصري يرفع رأسه دائماً أينما كان ويقول: "أنا مصري"...وهذه الروح انتقلت إلى الأمة العربية كلها فأصبح العربي مزهواً بكونه عربياً قابلاً لكل تضحية تترتب على ذلك.. وهذا ليس شيئاً قليلاً أو يمكن الاستهانة به أو التفريط فيه، بل يجب أن نتمسك به ونعمل على تنميته.


ثانياً: أن الثورة غرست مبدأ استقلال القرار السياسي.. وإن كانت قد عبرت عن هذا المبدأ بنظرية الحياد الإيجابي وعدم الانحياز .. أو يرفض الأحلاف والتبعية.. أو بالتمرد على انتشار السلع الأجنبية لتعوق نمو السلع المصرية – العربية.. فإن المبدأ لا يزال صحيحاً وإن كانت الظروف الدولية قد تغيرت فمن الممكن تغيير الأساليب وصيغة الممارسة .. ولكن أحداً لا يستطيع أن يدعو إلى التنازل عنه.


ثالثاً: أن الثورة عمقت في الشعور العام إرادة التغيير، وأقنعت المصريين بإمكان التغيير..كان المجتمع المصري مجتمعاً راكداً ثابتاً.. الطبقات الاجتماعية جامدة والحراك الاجتماعي شبه مستحيل.. أبناء الأغنياء هم الذي سيكونون أغنياء دائماً.. وأبناء الفقراء سيبقون فقراء دائماً.. والفرص في المجتمع مقصورة على فئات بعينها.. وكل شيء يبدو وكان الله خلقه هكذا وأي محاولة للتغيير مكتوب عليها الفشل لأنها تدخل في باب المستحيل.. كان يبدو مستحيلاً أن تزداد رقعة الأرض الزراعية.. أو أن تنشأ في مصر صناعات بمثل الاتساع الذي حدث.. أو أن يتحول أهل الريف من "اللمبة الجاز" إلى نور الكهرباء وتصبح في بيوتهم ثلاجة وغسالة بالكهرباء وموقد بالبوتاجاز وسيارة في بعض الأحياء.. إرساء فكرة إمكان التغيير وضرورته في ذاتها ليست هينة في مجتمع كان قد وصل إلى الجمود الذي يفضي إلى الموت.


رابعاً: مع فكرة التغيير رفعت الثورة مبدأ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، ولاشك أن هذا المبدأ تم تطبيقه مهما يقال في محاولات الهدم.. ويكفي أن ننظر إلى الصفوف الأولى في أي تجمع.. وإلى نجوم المجتمع في أي مجال الذي من أين جاءوا.. ونسأل أنفسنا ماذا كان سيكون حالهم لو لم تكن الثورة قد طبقت مبدأ العدالة الاجتماعية فأعطتهم فرصة التعليم المجاني إلى الدكتوراه في الخارج.. وأعطتهم المناصب العليا.. وأعطتهم الحق في أن يحصلوا على المكانة التي يستحقونها بمواهبهم وقدراتهم بصرف النظر عن مكانة آبائهم وأجدادهم.. يكفي أن البعض لم يعد يسأل: "أين من أنت؟" ولكن السؤال الآن: من أنت؟ وهذا تغير جذري يمثل انقلاباً اجتماعياً هائلاً يضع على القمة أصحاب الموهبة والقدرة وليس أصحاب النفوذ أو الثروة.


خامساً: أن ثورة يوليو أرست في مصر والعالم العربي – لأول مرة – أهمية تحديد رؤية للمستقبل..قبلها كان المجتمع المصري العربي يعيش يوماً بيوم.. يفكر كثيراً في الماضي.. ويفكر قليلاً في الحاضر.. لكنه يترك المستقبل على أنه ليس من شأن البشر.. جاءت الثورة لتعود المصريين والعرب على أن يحددوا أهدافاً للمستقبل ويضعوا الخطط للعمل والتنفيذ والمتابعة وبعد أن كان الحديث عن المستقبل وكأنه نوع من الخيال أو اختراق المجهول أو التمرد على المشيئة الإلهية، أصبح الآن في موضعه الصحيح: تلبية للإرادة الإلهية.. ورسماً لخطوات العمل المنظم وتحديداً للاتجاه الصحيح للحركة.. وبلورة لأهداف عامة وتفصيلية للمجتمع كله.. وتحديد اختصاصات كل جهة وكل فرد، وبالتالي أصبح كفرد يشعر أنه مسئول عن البلد ومسئول عن المستقبل.


وكل ذلك ليس قليلاً.. ولا يمكن لمجتمع أن يتحمل خسارة ضياع هذه الروح الملهمة.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف