محكمة لا تحتاج إلى دفاع!

خلال السنوات الأخيرة اكتسبت محكمتنا الدستورية تقديراً دولياً في المحافل، والمحاكم، وبين كبار فقهاء القانون الدستوري في العالم، مما يجعلنا نشعر بالفخر، فلقد دعي رئيس المحكمة الدستورية أكثر من مرة لإلقاء محاضرات عن المحكمة لكبار قضاة وأساتذة أمريكا وأوروبا، وأحكام هذه المحاكم تترجم إلى كل اللغات الحية تقريباً، وخلال أسابيع سيصدر بالإيطالية كتاب يضم ترجمة كاملة لجميع الأحكام التي أصدرتها محكمتنا باعتبارها مرجعاً يعمق ويؤصل مبادئ الرقابة الدستورية على أسس عالمية تساير أحدث نظريات ومبادئ الفقه والقضاء.. ومن هنا يبدو غريباً أن تظهر أصوات غريبة تحاول إثارة الشك، أو النيل من هذا الصرح الكبير.


قد يرى البعض إنه لم يعد غريباً أن يأتي صوت من هنا أو هناك ليشوه إنجازات هي بالإجماع محل إعجاب وتقدير، وقد يكون ذلك صحيحاً إذا جاء التشويه من ذوي نوايا سيئة، أو ممن تحركهم دوافع شخصية، أما أن يأتي ذلك ممن يفترض فيهم العلم والنزاهة والموضوعية فلابد أن نتساءل: لماذا؟


ولذلك لم نستطع أن نفهم كيف قام أستاذ مثل الدكتور مصطفى فهمي بفرض رأي شخصي له على كل الطلبة الذين يدرس لهم في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية يهاجم فيه المحكمة – الدستورية إلى حد القول بأن هذه المحكمة وهي حارسة الدستور وحامية حماه – قد أهدرت الدستور، وإنها تصدر أحكاماً مزاجية وأنها تشير في أحكامها إلى الفقه القانوني المقارن وإلى مبادئ عالمية وأحكام أصدرتها محاكم مماثلة في دول عريقة في الرقابة الدستورية وممارسة الديمقراطية.


وأكثر من ذلك أن يفرض على طلبته أن يرددوا هذا الكلام في الامتحان حين وضع لهم سؤالاً يقول: اذكر كيف أهدرت المحكمة الدستورية الدستور وأصدرت أحكاماً مزاجية؟


بالرغم من أن الدكتور مصطفى أبو زيد له كتاب في القانون الدستوري أصدر منه طبعتين، مدح المحكمة الدستورية في إحداهما وكال لها الهجوم في الثانية.. ففي كتابه "النظام الدستوري المصري ورقابة دستورية القوانين قال بالحرف في طبعته عام 1994 أن أحكام هذه المحكمة الآن "جسورة جادة" وأن أحكامها تمثل "ثروة قضائية" ملأت أربعة مجلدات كاملة، وأم مثل هذه الثروة القضائية تحتم على الفقيه وهو يعرض لدراسة النظام الدستوري أن يغير في مساره، ويعدل في طريقته، فلا ينظر إلى مكونات هذه الدراسة وكأنها فقه بحت، بل يجب أن يفرد لهذا القضاء الغزير مكاناً من اهتمامه وعنايته.. وهذا ليس مجرد تحية لهذا الجهد القضائي الخلاق، بل إنه عرض "للقانون الوضعي" في حجمه الحقيقي.. ويقول أيضاً وبالحرف: "ونعود مرة أخرى في خاتمة المطاف – إلى القضاء الدستوري في مصر، ونقولها دون تردد: إن هذا القضاء قد بذل جهداً كبيراً.


هذه كلمات الدكتور مصطفى أبو زيد في كتابه الذي درسه الطلبة عام 1994 لكنه قال كلاماً آخر في طبعه الكتاب نفسه عام 1996 نصه "وهكذا أهدرت المحكمة الدستورية أحكام الدستور، وهي تجعل لحكمها بعدم الدستورية أثراً غير ما نص عليه الدستور والقانون، ويشرح ذلك بأنه يفهم أن المحكمة إذا حكمت بعدم دستورية نص قانوني فإن عدم الدستورية يبدأ من تاريخ الحكم، وليس من تاريخ صدور القانون كما جرى قضاء المحكمة، وكأنه يريد بذلك أن يقول أن النص إذا ثبت للمحكمة أنه مخالف للدستور فإنه يبقى – رغم ذلك – صحيحاً ودستورياً وسارياً من تاريخ صدوره حتى تاريخ صدور الحكم.. وبوضوح أكثر يريد الدكتور أبو زيد أن يجعل النص الواحد دستورياً في فترة وغير دستوري بعد ذلك، فإذا قررت المحكمة أنه ما دام مخالفاً للدستور فإن ذلك ينطبق عليه منذ صدوره، والباطل باطل والحق حق ولا يمكن أن يكون الباطل حقاً في وقت ويعود إلى أصله باطلاً في وقت آخر.


يقول الدكتور أبو زيد إن هذه المحكمة كان سبيلها في التفسير عجباً، ثم يقول: "إذا جعلنا لرقابة الدستورية محكمة خاصة وظيفتها الوحيدة رقابة دستورية القوانين فإنها قد تجعل هذه الرقابة رقابة قانونية، وقد تجعلها في أحيان كثيرة أو قليلة رقابة مزاجية بحتة، تتصل بمزاج المحكمة نفسها.. وضرب الدكتور أبو زيد مثلاً – ليدرسه طلبته – على الأحكام المزاجية التي أصدرتها محكمتنا الدستورية، الحكم الذي أصدرته في القضية رقم 37 لسنة 11 قضائية دستورية، ولم يذكر اسم صاحب هذه الدعاوي، رغم أن الدكتور مصطفى أبو زيد هو صاحبها، وجاء حكم المحكمة مخالفاً لما أراده، وكان ذلك حين رفع دعوى على أحد المحامين يتهمه فيها بأنه وجه إليه عبارات تنطوي على جريمة القذف في حق الموظف العام، والمادة 123 من قانون الإجراءات الجنائية توجب على الشخص المتهم بالقذف في حق الموظف العام أن يقدم في مدى خمسة أيام من مواجهته بالاتهام بياناً بادلته على صحة وقائع القذف وإلا يسقط حقه في إقامة الدليل، ولكن المحكمة الدستورية أصدرت حكمها بأن هذه المادة غير دستورية، لأنها تنتكس بقاعدة حرية التعبير وحرية انتقاد العمل العام كحق مكفول لكل مواطن، دون قيود مسبقة على نشرها، ومن غير المحتمل أن يكون انتقاد الأوضاع المتصلة بالعمل العام للتبصير بنواحي التقصير فيه مؤدياً إلى الإضرار بأية مصلحة مشروعة، وليس جائزاً – بالتالي – أن يكون القانون أداة تعوق حرية التعبير عن مظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وبعد دفاع تاريخي عن حرية الرأي وحرية التعبير وحرية النقد قررت المحكمة أن القانون يجب ألا يفرض قيوداً باهظة على الأدلة التي بيد من يمارس النقد إلى حد إهدار الحق في تقديمها بعد خمسة أيام، فما دام الذي يمارس النقد لديه أدلة فإنه يجب أن يجد الفرصة لتقديمها أمام المحكمة التي تحاكمه، ووجود عائق زمني بأن يقدم خلال خمسة أيام فقط من توجيه الاتهام إليه وألا يسقط حقه في تقديم الدليل بعد ذلك فإن ذلك سوف يدفع كل ما لديه أدلة على الانحراف من ممارسة النقد خوفاً من ألا يستطيع تقديم الدليل في هذا الأجل القصير.. وبذلك خسر الدكتور مصطفى أبو زيد القضية التي أراد بها أن يحرم المحامي من أن يقدم دليلاً على الاتهامات التي وجهها إلى الدكتور أبو زيد في كتاب نشره.. وكانت النتجية أن قال الدكتور أبو زيد أن هذه المحكمة تصدر أحكاماً مزاجية وتهدر الدستور بعد أن كان يقول قبل ذلك بقليل أن أحكام هذه المحكمة ثروة قضائية وأنه يوجه التحية لهذا الجهد القضائي الخلاق.. وأكثر من ذلك فإنه يوجه نقداً للمحكمة لأنها تورد في أحكامها إشارات إلى أحكام المحاكم في البلاد العريقة في الديمقراطية، دون أن ينتبه إلى أن محكمتنا تضع في اعتبارها أن في مصر الآن حياة ديمقراطية في إطار دستور يؤكد ويحمي هذه الديمقراطية فليس غريباً أن تضع المحكمة في اعتبارها المبادئ الديمقراطية التي تراعيها المحاكم المماثلة في العالم المتقدم.. وفي هذا تقليد عظيم لفترة خصبة كانت فيها محكمة النقض المصرية تشير إلى أحكام المحاكم المماثلة في بلاد متقدمة.. ولم ينتبه الدكتور أبو زيد إلى أن المحاكم التي تمارس الرقابة على القوانين هي الأخرى تشير إلى الأحكام والمبادئ التي تقررها محكمتنا..

ولعل أفضل ما قيل عن محكمتنا الدستورية هو ما جاء في مقالة لواحد من أكبر الفقهاء المعاصرين هو البروفيسور J.M OTTO نشرها معهد Vam Vollemhovem عنوانها "الفقهاء وبنيان الأمة والتوتر الاجتماعي في مصر" قال فيها: إن الرئيس السادات أنشأ المحكمة الدستورية إلا أنها في عهد مبارك انطلقت إلى آفاق أرحب، وأصبحت فريدة في بابها، ومجددة، متمتعة في ذلك بسلطات ملحوظة تمارسها الآن فعلاً دون خوف من السلطة التنفيذية القوية، وقد كان رئيسها الحالي عوض المر القوة الدافعة وراء قراراتها الجسورة والمتوازنة في آن واحد، ومهمتها بتحقيق سيادة القانون، وأصبح بحق خليفة السنهوري، وكذلك في مجال اعتماده على القانون المقارن، وخلال حكم مبارك أظهر رئيس الجمهورية احتراماً للقانون أكثر من أسلافه جميعاً..


هذه شهادة الفقه العالمي .. وهي تكفي للرد على من يريد النيل من هذا الصرح العظيم الذي يجب أن نعتز به لأنه حصن للحريات ومصدر اعتزاز لوطننا وشهادة تاريخية لهذا العصر ولذلك فإن هذه المحكمة في أعلى مكان لا تحتاج إلى دفاع..


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف