لو تعمقنا في دراسة أهداف ومقاصد الإرهاب سوف نجد أن الهدف الأول هو أن يلزم الإرهاب الجميع بما يفرضه عليهم، ويفرض على المجتمع قانونه.. وأن يسود فكر الإرهاب وفلسفته إلى أن يصل الأمر إلى درجة يصبح فيه الإرهاب هو المرجعية العليا التي يجب الخضوع لها، القول ما يقول والعمل ما يأمر به، وفهم النصوص والأحكام في الشريعة لا يكون صحيحاً إلا إذا تطابق مع المفاهيم التي يفرضها، وكل فكرة صواب وكل فكر غيره ضلال وكفر؟
هذا هو القانون الذي يريد الإرهاب أن يفرضه على الجميع ولذلك يستخدم أقصى درجات العنف المعنوي والمادي، بالتكفير والقتل، في محاولة منه لإخضاع الجميع لكي يستسلموا ويسلموا بهذا القانون.. فإذا ساد قانون الإرهاب فوق قوانين العقل والشريعة والمجتمع تحقق الهدف النهائي الذي يسعى إليه، وهو أن يسقط المجتمع وأهله أسرى ورهائن في يده.
وينبغي ألا نغفل أن الإرهاب يستخدم أقصى درجات الذكاء لتحقيق هدفه، ويندرج في مواقفه مرحلة بعد مرحلة بخطوات محسوبة، مما يؤكد وجود عقل قائد، يتولى التخطيط وتنفيذ الإستراتيجية الحقيقية المعادية للشريعة والإسلام ويحرك جماعات الصبية التي تحولت إلى دمي مسئولية العقل والإرادة تخرب وتقتل دون وعي ولا حساب للعواقب.
ويظهر الذكاء الإرهابي في اختياره المرأة نقطة بداية لفرض فكره وسيطرته على سلوك المجتمع، فكانت نقطة البدء قضايا من أمثال أن خروج المرأة للعمل حرام واشتراكها في الحياة العامة كفر، وأن "النقاب" فريضة مفروضة بحكم الشرع ومن يخالفها خارج عن الشريعة.. وانتقل الإرهاب من الدعوة إلى النقاب بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن، إلى إيذاء غير المنقبات، ثم إلى التحدي، وأخيراً باللجوء إلى القضاء لاستصدار حكم منه بأن النقاب هو الزي الوحيد للمرأة المسلمة، حتى وصل بالقضية إلى المحكمة الدستورية وقفة تاريخية في تأصيل المسألة من جانب الشريعة أولاً ثم من جانب مناقشة هل منع الفتيات في المدارس من ارتداء النقاب يمثل خروجاً على ما هو معلوم من الدين بالضرورة أو خروجاً على مبدأ الحرية الشخصي أو مبدأ حرية العقيدة أو مبدأ أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهي من أهم أركان الدستور المصري، ووضعت المحكمة الدستورية المسألة في موضعها الصحيح بعيداً عن المغالطات والتشنجات الانفعالي في تسلسل منطقي واستناداً إلى المراجع الفقهية الكبرى.
· قالت أن كل تشريع في مصر يجب أن يكون متفقاً مع ما هو معلوم في الدين بالضرورة، ولا يجوز أن يخالف قانون أو قرار الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، وهذه الأحكام الشرعية الملزمة هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعاً، لأنها تمثل المبادئ والأصول الثابتة للشريعة التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً، ولا يتغير مفهومها بتغير الزمان والمكان.
· ما الأحكام غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها، فإن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها، وهذه الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان لتنظيم شئون العباد وفقاً لما يحقق مصالحهم المعتبرة شرعاً، ولا يعطل حركتهم في الحياة، على أن يكون الاجتهاد في إطار الأصول الكلية للشريعة، ولاشك أن إعمال العقل فيما لا نص فيه أرفق بالعباد، وأكثر تحقيقاً لمصالحهم التي شرعت الأحكام لتحقيقها.
· وأقوال الفقهاء في قضايا الاجتهاد ليست لها قدسية، ولا من المحظور مراجعتها وإعادة النظر فيها، بل وإبدالها بغيرها، ما دامت الآراء الاجتهادية بطبيعتها موضع خلاف دائماً بين الفقهاء وبالتالي لا يمكن اعتبار اجتهاد ما شرعا ثابتاً لا يجوز الخروج عليه أو تحريم القول بغيره، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر في دين الله، وإنكاراً لحقيقة هي أن الخطة محتمل في كل اجتهاد وهذا ما دعا بعض الصحابة إلى التردد في الإفتاء، وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه الفقهاء جميعاً، وهو أن اجتهاد أحد الفقهاء لا يمنع المسلم من إتباع اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء سنداً أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة ولو كان مخالفاً لآراء استقر عليها العمل زمناً، وتلك هي الشريعة الإسلامية، متطورة ورافضة للجمود.
· وولي الأمر له أن يصدر التشريعات التي تحقق المصالح المرسلة بما لا يتعارض مع المبادئ الجوهرية للإسلام، وسلطة ولي الأمر في التشريع سلطة تقديرية لا تقيدها إلا المبادئ الأولية للشريعة ومبادئ الدستور وهذا الحق لولي الأمر مقرر في الشريعة الإسلامية بإجماع الفقهاء، وهو حق ممارسة كل من حكم المسلمين ابتداء من أبي بكر وعمر وعثمان حتى الآن.. لأن ضرورات الواقع تفرضه وإنكاره يعني جمود الشريعة الإسلامية وجمود مجتمع المسلمين.
· وأن ملابس المرأة ليست من الأمور التعبدية التي لا تبديل فيها، وإذن فإن لولي الأمر السلطة في أن يشرع فيها الأحكام العملية لتحديد رداء المرأة في ضوء ما يكون سائداً في المجتمع بين الناس مما يعتبر صحيحاً في عاداتهم بحيث لا تتصادم مع نص قطعي، وبشرط أن يكون ضابطها أن تحقق للمرأة "الستر" بمفهومه الشرعي، لتكون ملابس المرأة المسلمة تعبيراً على عقيدتها.
· وليس معقولاً أن تموج الحياة من حول المرأة المسلمة ثم يطلب منها أن تكون شبحاً مكسواً بالسواد أو بغيره، بل يجب أن تكون ملابسها شرعاً دليل تقواها ولا تعطل حركتها في الحياة، فلا يجوز أن تخرج ملابسها من حد الاعتدال ولا أن تحجب كل بدنها ليضيق عليها اعتساقاً، وتطبيق النص: "يدنين عليهن من جلابيبهن" يفرض ألا يبدو من ظاهر زينتها إلا ما لا يعد عورة، وهما الوجه والكفان، والقدمان عند الحنفية، ودون أن يضربن بأرجلهن "ليعلم ما يخفين من زينتهن" وقد دعا الله الناس جميعاً أن يأخذوا زينتهم ولا يسرفوا، وهو ما يعني التزام المرأة – والرجل – حد الاعتدال .. وللمرأة يكون مطلوب ألا تصف الثياب ولا تشي بما تحتها من ملامح الأنوثة، ولا يكون النقاب مطلوباً منها شرعاً طلباً جازماً..أما الإلزام بالنقاب بما فيه من احتجاب المرأة بالكامل فلا يظهر منها إلا عيناها ومحجراهما فهو تأويل غير مقبول ولا معلوم من الدين بالضرورة، ولا يتفق مع معنى ستر "العورة" المتفق عليه الذي يتصل بأجزاء من بدن المرأة ليس منها الوجه والكفان والقدمان.. بل إن كشف الوجه يعين على معرفتها من الناس فيفرضون عليها نوعاً من الرقابة على سلوكها، وهو أدعى لحيائها وغضها من بصرها وأدعى لرفع الحرج عنها. وما رآه البعض من أن كل شيء في المرأة عورة حتى ظفرها مردود بأن الأئمة مالك وأبا حنيفة وابن حنبل والمشهور عند الشافعية لا يرون ذلك، والرسول – صلى الله عليه وسلم – نص بكلمات صريحة على أن يكون ثوب المرأة ساتراً لبدنها فما عدا الوجه والكفين، وبعد الكلمات الصريحة من الرسول عليه الصلاة والسلام لا مجال للاجتهاد.. ولا للمزايدة على الرسول.
هكذا فندت محكمتنا الدستورية القضية وأظهرت فساد المنطق الذي يستند إليه الإرهاب في اعتبار النقاب فريضة والهجوم على وزارة التعليم لأنها منعت التلميذات من ارتدائه داخل المدرسة، وسمحت بالخمار والملابس التي تحقق معنى "الستر" المطلوبة شرعاً.. لكن القضية عند الإرهاب ليست النقاب.. النقاب هو نقطة البدء للهجوم لتدور حوله المعركة.. وحين يتحقق للإرهاب فيها النصر ويفرضه بالقسر ينتقل إلى غيره إلى أن تسود كل مفاهيم الإرهاب.. ثم يسود قانون الإرهاب ويصبح هو القانون الوحيد الأوحد.. ثم يسود الإرهاب .. ويحكم ويتحكم..
القضية لمن الحكم: لله .. أم للإرهاب ؟
وقد استطاعت المحكمة الدستورية – كعادتها – أن تضعنا على الطريق الصحيح.