في عيد العمال تساءل الرئيس حسني مبارك في خطابه: ما الذي ينقصنا..؟
وكان الرئيس يعدد ما لدينا من قدرات تجعلنا قادرين على الوصول إلى ما وصل إليه غيرنا من تقدم.. فقد انتقلت دول كثيرة صغيرة وبلا إمكانات من آخر صفوف الدول المتخلفة لتحتل أماكن متميزة بين الدول المتقدمة فيما يشبه المعجزة، بينما نحن نملك قدرات أكبر على تحقيق التقدم.. لدينا الاستقرار.. ولم تعد هناك عقبات جوهرية أمام الاستثمار مهما تكن جنسيته.. ولدينا تجربة إصلاح اقتصادي ناجحة.. وأقمنا البنية الأساسية.. وعندنا كوادر من العمال والفنيين والعلماء.. فما الذي ينقصنا لكي نحقق ما حققه الآخرون.
والحقيقة أننا ينقصنا أمور لا يمكن الاستغناء عنها إذا أردنا أن تحقق الهدف الكبير الذي حدده الرئيس..
حقيقة ينقصنا الانضباط والفهم الصحيح لمعنى الحقوق والواجبات.
وحقيقة ينقصنا الالتزام بمعايير الجودة والإتقان.
وحقيقة ينقصنا فضيلة الاعتراف بعيوبنا الاجتماعية والأخلاقية وتحديد كيفية التخلص من هذه العيوب لكيلا يكون تحقيق النوازع والمصالح الفردية على حساب أهداف ومصالح المجتمع.. ولكيلا تكون الأفكار والقيم القديمة عقبات أمام التقدم الاجتماعي والحضاري.
وفي عالم يشتد فيه الصراع على الأسواق وتزداد فيه سرعة السباق على التفوق العلمي والتكنولوجي لن يكون فيه مكان إلا للأصلح والأقوى كما حذرنا الرئيس.
ولكي ندخل هذا السباق ليس أمامنا إلا سبيل واحد..أن نؤمن بضرورة إدراك أنه لا يمكن أن يكون لنا مكان إلا بمدى ما نصل إليه من العلم والتكنولوجيا..
القرن القادم سيكون قرن العلم والتكنولوجيا..وكل المجالات سيكون تقدمها رهناً بالتقدم فيهما.. فما الذي ينقصنا لندخل القرن الحادي والعشرين من البوابة الوحيدة المؤدية إليه: بوابة العلم والتكنولوجيا..؟
تنقصنا سياسة علمية وتكنولوجية رسمية معلنة لها أهداف واقعية ممكنة التحقيق، وتتوافر الظروف والإمكانات لتحقيقها. ما يحدث الآن أن الشركات تستورد التكنولوجيا الأجنبية دون ضوابط، ومؤسسات البحث العلمي تقوم بالأبحاث التي تختارها دون تدخل من الدول، ودون رؤية ترتبط بأهداف الدولة، وليس من بين الأهداف الآن سد الفجوة التكنولوجية بين مصر والدول المتقدمة.. لدينا خطة اقتصادية واجتماعية.. ولكن ليس لدينا خطة علمية وتكنولوجية.. وهذا أمر بالغ الأهمية ينقصنا.
ونحتاج الآن إلى أن نعيد النظر – بعمق وجرأة – في وضع وزارة البحث العلمي ومؤسسات البحث العلمي في مصر.. مراكز متعددة متناثرة.. التنسيق مفتقد.. والسلطات متعارضة .. والأهداف غير محددة.. وليس هناك هدف إستراتيجي.. وقرار سياسي يحدد هذا الهدف.. أو سلطة سياسية واحدة مسئولة عن إدارة سياسة البحث العلمي وتنفيذها والرقابة عليها والإشراف على سيرها في اتجاه تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي.. وهذا أيضاً شيء آخر ينقصنا.
والانفصال بين مراكز البحث العلمي ومواقع الإنتاج أدى إلى وجود أبحاث نظرية استغرقت طاقة وعمر العلماء وأنفقت عليها الدولة ملايين الجنيهات ولم يتحقق منها عائد في تطوير الإنتاج الصناعي.. وعدم وجود قنوات اتصال تنظيمية واضحة بين مراكز البحث العلمي ومواقع الإنتاج أدى إلى الانفصال وإلى استقلال كل ميدان منها عن الآخر بحيث أصبح كل منهما في غنى عن الآخر.. وهذا التكامل أو التنسيق أو تبادل التأثر والتأثير شيء ينقصنا.
وحتى الآن مازلنا بعيدين عن ميادين المنافسة الحقيقية وهي ميادين إنتاج الإلكترونيات الدقيقة والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات، وتكنولوجيا التصنيع المتقدمة، وتكنولوجيا المواد المتقدمة، وليست ليدنا مراكز علمية قومية لكل من هذه الميادين التي تؤثر في كل أنشطة الصناعة وفي الأسواق الدولية، والدول الصغيرة التي قفزت إلى الصفوف الأولى أدركت أهمية هذه الميادين وعملت فيها بجدية وحققت إنجازات جعلتها جديرة بأن تصبح من النمور.. والنمور تزداد عدداً .. ونحن لم نصبح نمراً حتى الآن لأن إدراك هذه الحقيقة مازال ينقصنا.
وليس معقولاً أن يكون نصيب التمويل لكل أنشطة العلم والتكنولوجيا وبحوث التطوير أقل من نسبة اثنين في الألف من الدخل القومي من التمويل الحكومي ونسبة صفر تقريباً من القطاع الخاص الذي مازال بعيداً عن إدراك قيمة البحوث العلمية والتطوير التكنولوجي.. ولكي يرتقي البحث العلمي إلى درجة معقولة تعكس جدية العمل لسد الفجوة العلمية والتكنولوجية بيننا وبين العالم المتقدم فلابد أن تكون نسبة الإنفاق على البحث العلمي واحداً في المائة على الأقل من الدخل القومي، ويشارك فيها القطاع الخاص ثم نحدد موعداً لرفع هذه النسبة تدريجياً ونلتزم بذلك بجدية. ولابد من إنشاء صندوق قومي للبحوث والتطوير على الفور، تشارك في تمويله كل الأطراف ذات المصلحة، وأن يكون في سياسات الشركات بالقطاعين التعاقد مع مراكز البحث العلمي لإجراء بحوث التطوير التي تساعدها على تطوير وتحسين إنتاجها.
ولقد اعترفت وزارة البحث العلمي أخيراً بأن الزيادة في أعداد الباحثين في معظم مؤسسات البحث والجامعات هي زيادة ظاهرية، ولا يزال هناك نقص في الباحثين، تقابله زيادة كبيرة وتضخم في الجهاز الإداري والموظفين في الخدمات المعاونة .. ومعظم الأبحاث التي تظهر في الإحصاءات ليست إلا أبحاثاً نظرية يقدمها أصحابها للترقية إلى وظائف علمية لا تفيد في النواحي التطبيقية.. وتنقصنا الجرأة لإعادة النظر.. وإعادة التنظيم، وينقصنا أيضاً عدم وجود سياسة واضحة لتدريب الباحثين لتوجيه نشاطهم إلى تطوير الإنتاج تحسين نوعيته للمنافسة والتصدير.
لقد فتح الرئيس الباب لحوار قومي لابد أن يشارك فيه كل المخلصين لهذا البلد حين تساءل: ما الذي ينقصنا ..؟
وعلى كل المخلصين أن يقدموا بكل إخلاص وأمانة اجتهاداتهم للإجابة عن هذا التساؤل.. فإن الكمال لا يتحقق.. ولا يمكن الاقتراب منه.. إلا بالاعتراف بالنقص.. أما ادعاء الكمال وإنكار وجود أي نقص.. فهذا هو خداع النفس المؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.