دعت الدكتورة فينيس كامل وزيرة البحث العملي إلى ندوة احتشد فيها عدد كبير من العلماء المعروفين، وقيادات المراكز والمعاهد العلمية، ورؤساء الجامعات، وقادة الرأي.. كان موضوعها مناقشة مشروع إطار للسياسة العلمية والتكنولوجية في مصر لكن الندوة تحولت إلى مناقشة ما هو أوسع وأهم.. وانتقلت بعد إقرار هذا الإطار إلى البداية الصحيحة لضمان تنفيذها.. ثم توقفت طويلاً عند قضية مستقبل البحث العلمي في مصر.. كيف سيكون.
إطار السياسة العلمية التي أعدتها الوزيرة بالاستعانة بخبراء مصريين ودوليين كانت موضع تأييد، مع بعض تحفظات وإضافات، لكن أهم منها كان محاولة الإجابة على سؤال بسيط: هل النهضة العلمية مسئولية وزيرة البحث العلمي ووزارة البحث العلمي وحدهما، أم هي مسئولية المجتمع كله.. بكل هيئاته ومؤسساته وقياداته.. ومسئولية كل الوزراء وكل الوزارات .. بل وهناك مسئولية شعبية أيضاً..؟
لقد أوشك المصريون أن يصابوا بالملل من كثرة الحديث عن ضرورات الاستعداد لدخول القرن الحادي والعشرين دون أن يلمسوا جدية الإعداد والاستعداد بينما يرون دولاً صغيرة مثل ماليزيا ودولاً كان يضرب بها المثل في الفقر والتخلف مثل أندونيسيا، وقد تحولت كل منهما إلى نمر صناعي واقتصادي، وحين نبحث كيفية تحقيق هذا الانقلاب نجد أن البداية كانت: العلم، والتعليم، وليست هناك بداية أخرى لنهضة الأمم غيرهما.
البداية هي تحديد مكانة العلم والعلماء في المجتمع وهل هما قوة فاعلة ونشيطة ومؤثرة في القرار أم لا..؟ هل تعتمد مراكز صنع القرار على نتائج الأبحاث العلمية..؟ هل هناك صلة تنظيمية وجسور تضمن التعاون والتكامل بين المؤسسة السياسية والتشريعية.. وبين المؤسسة العلمية..؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب فلماذا لا نرى نتائج الأبحاث العلمية حاضرة ومؤثرة في مناقشات مجلس الوزراء ومجلس الشعب أو غيرهما من مؤسسات الدولة..؟ ولماذا نلمس هذا الانفصال بين أجهزة التفكير وأجهزة التنفيذ..وكل منهما يعمل في واد وحده..؟
ولماذا لم تلجأ إحدى هذه المؤسسات يوماً إلى مركز من مراكز البحوث بطرح المشكلات التي تواجهها وطلب إيجاد حلول علمية لها..؟ ولماذا تبقى الأبحاث في الجامعات في المكتبات والمخازن ولا تجد من يحاول الاستفادة بما فيها من جهد ونتائج ..مع أن حجم الإنفاق على هذه الأبحاث بالملايين، والجهد المبذول فيها يمثل سنوات من عمر القائمين بها، وبعضها تستفيد به جهات في الخارج وتقدر قيمته..؟ ولماذا لم تصبح مراكز البحث وكليات الجامعات بيوت خبرة لمؤسسات المجتمع وللشركات ولا تزال هناك مئات من بيوت خبرة لمؤسسات المجتمع وللشركات ولا تزال هناك مئات من بيوت الخبرة الأجنبية تحصل على الملايين مع أنها في الحقيقة نستعين بباحثين مصريين..؟!
هذه الأسئلة لابد أن تطرح أولاً بصراحة، لأننا لابد أن نحدد بوضوح، وبصدق مع النفس: هل وصلنا إلى الدرجة التي أصبحنا نشعر فيها بأهمية البحث العلمي.. وهل نعرف قيمة العلماء ونقدر الدور الذي يمكن أن يقوموا به في بناء المستقبل..؟ وهل يشعر صاحب القرار..في كل موقع – أن القرار يجب أن يستند إلى البحث العلمي أم يشعر بأن ذلك ليس ضرورياً..؟
والأسئلة حول مستقبل البحث العلمي في مصر لا نهاية لها.. لأننا في مرحلة تحول كبرى.. ونسعى إلى التوسع في الاستثمار والصناعة والزراعة.. ونتحدث عن المنافسة الدولية على جودة الإنتاج وخفض التكلفة، وصعوبة الحصول على نصيب من حجم التصدير بعد اتفاقية الجات التي ترفع الحماية والقيود عن التصدير والاستيراد وتهدد بذلك الدول ذات الإنتاج المختلف.. إذا كنا نتحدث عن ذلك كل يوم فهل نبقى عند مرحلة استيراد المكونات وتجميعها في مصر ونسمى ذلك صناعة واستثماراً..
هل السيارة الأمريكية أو اليابانية إذا تم استيراد كل أجزائها وتم ربطها في مصر تصبح سيارة مصرية.. وهل وجود 30% من مكوناتها في مصر وهي التي لا تعتمد على التكنولوجيا.. هل سيصل ذلك بنا إلى إنتاج سيارة مصرية على المدى الطويل.. وينطبق ذلك على التليفزيون، والكمبيوتر، وأجهزة الليزر، والأشعة، ومئات الأجهزة التكنولوجية الأخرى.. أليس الأفضل أن نصارح أنفسنا أن صناعات التجميع ليست صناعة.. وهي أقرب إلى النشاط التجاري.. وهي خطوة أولية وبدائية ولابد أن تؤدي إلى خطوات سريعة يتم فيها التوسع في تصنيع الأجزاء المهمة التي تحتاج إلى تكنولوجيا.. وهل يمكن أن يتحقق ذلك دون اعتماد على مراكز البحث العلمي..؟ وهل يمكن أن يتحقق ما نقوله عن ضرورة ابتكار تكنولوجيا مصرية تعتمد على العقول المصرية، وعلى الخامات المصرية، وتناسب ظروف المجتمع العربي.. هل يمكن أن يتحقق ذلك من تلقاء نفسه أم يستلزم الاعتماد على مراكز البحث..؟
إن قضية القضايا هي ارتباط العلم بالتعليم، وهل النظام التعليمي في مصر يساعد على توسيع قاعدة المشتغلين بالعلم واكتشاف علماء المستقبل.. هل نربي أبناءنا على الحفظ والتكرار أو على الإبداع والابتكار.. وإذا كان التعليم قد بدأ السير على الطريق الصحيح ..فهل اكتملت مسيرته، وهل تحقق التكامل بين المؤسسة العلمية والمؤسسة التعليمية.. وهل تحصل كل منهما على نصيب معقول من الميزانية يجعلها قادرة على تحقيق الهدف الكبير المحدد لها..؟
وأغرب ما يقال في كل تجمع الآن هو الشكوى من نقص المعلومات.. وعدم وجود قاعدة بيانات دقيقة.. واعتراف الكثيرين بأنهم يحصلون على المعلومات عن مصر من مصادر غير مصرية.. والأغرب منه أن الميزانيات المخصصة للبحث العلمي موزعة على عشرات الوزارات والمواقع، دون تنسيق، وليست هناك بيانات دقيقة عن هذه الميزانيات وأوجه إنفاقها.. وبالتالي فإن تكرار الجهد موضع شكوى الجميع..
وتحقيق التنسيق المفقود تحول إلى أمل ضائع لإصرار كل وزارة على الاستقلال بأنشطتها وكأنها دولة مستقلة ذات سيادة لا يجوز التدخل في شئونها الداخلية وإلا اعتبر ذلك عدواناً عليها..!!
لقد فتحت وزير البحث العلمي الباب لتدخل منه عواصف فكرية كانت محبوسة.. وأعتقد أنها بدأت الطريق الصعب.. لأن سياسة "كل شيء يسير على ما يرام" كانت تضمن لمن قبلها الراحة والأمان.. لكن مستقبل البحث العلمي في مصر.. وهو في الحقيقة مستقبل مصر ذاتها..يستحق هذه المغامرة بالسباحة ضد التيار..!