مسئولية المثقفين

كشف حوار الرئيس مبارك مع المثقفين بمناسبة معرض الكتاب المكانة الحقيقية للمثقفين في المجتمع المصري في هذا العصر، قال الرئيس صراحة إن المثقفين هم "كنز" مصر الحقيقي الذي تحرص عليه وتعرف قيمته، وقال أيضاً إنه حريص على أن يستمع من المثقفين إلى آراءهم في جميع القضايا المطروحة على ساحة العمل الوطني، بصراحة كاملة، دون تحفظات أو مجاملة أو تجميل للواقع.


وبعد هذه الدعوة المفتوحة لابد من حوار بين المثقفين أنفسهم يبحثون فيه دورهم ومسئوليتهم، ويحددون فيه معالم الطريق الذي يمكن أن يسلكوه ليكونوا عوناً للمجتمع كله في معارك الانتقال من التخلف والشمولية إلى التنمية والحرية.. مثل هذا الحوار لا يحتاج إلى دعوة من الدولة أو مؤسساتها، كما لا يحتاج إلى دعوة من الدولة أو مؤسساتها، كما لا يحتاج إلى إجراءات بروتوكولية، ولكنه يحتاج فقط إلى الشعور الوطني بأهمية العمل وتحمل المسئولية، وتلبية أمل المواطنين وما ينتظرونه من الطبقة التي أعطاها المجتمع فرصة العلم والثقافة والتفوق ليردوا بعض ما عليهم من دين لوطنهم.


وأعتقد أن حوار المثقفين هذا يمكن أن ينتهي إلى بلورة ميثاق شرف أخلاقى يتفق فيه المثقفون جميعاً على اختلاف توجهاتهم ورؤاهم ومواقفهم السياسية على أن يكونوا عوناً للمصريين في هذه المرحلة.. فالمصريون يحتاجون إلى من يلقي أضواء الفهم المخلصة على الحقائق المحيطة بكل محور من محاور النضال اليومي للمواطنين.. سواء في مشاكل معيشتهم .. البطالة ..ومشقة الحياة على الفقراء ومحدودي الدخل، أو في حياتهم العامة.. ابتداء من قضية الحريات وممارسة الديمقراطية، بوجوه سافرة وأقنعة وتختلط فيها دعاوي الحق والباطل، وبالتالي تحتاج إلى يقظة.. وانتباه.. وحشد.. وتجميع للصفوف.


وإذا كان المثقفون في مرحلة من المراحل قد استسلموا للمشاعر السلبية، ولم يستطع بعضهم أن يرى أمامه شعاع ضوء يمكن أن يعطيه الأمل في المستقبل.. فقد كان لهؤلاء العذر، لأن عملية التحول كانت أسرع وأوسع من قدرة البعض على استيعابها، أما الآن وقد اتضحت معالم خريطة العمل الوطني، ولم يعد هناك أدنى شك في أن القيادة التي تمسك دفة السفينة هي قيادة وطنية شديدة الحساسية للمصالح والكرامة الوطنية، شديدة الحرص على اعتبارات وضمانات المستقبل والأجيال الجديدة، شديدة الوعي بالمحاذير والفخاخ المنصوبة.. فإن واجب المثقفين أن يساندوا هذه القيادة، وينشروا في المجتمع روح الإيجابية، والثقة، والتفاؤل.


ليس هناك مبرر لبعض ما نراه في مجتمع الصفوة من المثقفين من سلبيات هي آثار من مراحل ماضية.. ليس هناك معنى لاستمرار وقوف بعض المثقفين ضد البعض الآن لمجرد إثبات الذات، أو رغبة في الظهور والاستئثار بحق القول والتمثيل والصدارة، أو لمجرد أن حق الكلام مباح. إن دور المثقفين أن يستفيدوا من حرية الفكر والحق في الاختلاف من أجل الوصول إلى الفكر الأفضل والاتفاق عليه.. ودورهم هو غرس حرية التفكير، واحترام العقلانية، والحفاظ على المبادئ الأساسية للمجتمع، فلا تجرفهم لعبة الحرية إلى المساس بالعقائد أو بالوحدة الوطنية، أو بسلامة الكيان السياسي للمجتمع. أو إثارة مشاعر جماهير المؤمنين بدعاوي التحرر. وإذا كان الفقر الأخلاقي يدفع البعض إلى الإسارة إلى المقومات الأساسية للمجتمع تحت دعاوي فض الأغلفة القديمة والأكفان التي توارثتها الأجيال دون تفكير، فإن من واجبهم أن يفعلوا ذلك دون أن يلجأوا إلى أسلوب الإثارة أو التحدي، لأن حريتهم يجب ألا تصادر حريات الآخرين أو تكون على حسابهم.


كذلك فإن مسئولية المثقفين "ألا ينساقوا وراء الشعارات البراقة وحدها، أو التحليق في المثاليات دون نظر إلى ظروف الواقع، ودرجة تطور المجتمع الحالية، فهم يحلمون بالمستقبل الأفضل والأكمل، ولكن دون أن يفقدوا القدرة على رؤية الحاضر بكل ما فيه من رواسب ومشاكل.. وعلى سبيل المثال فإن المطالبة بالحريات السياسية كاملة ودون أية قيود هو مطلب مشروع، ولا ينبغي أن يتهاون فيه المثقفون، ولكن هل يكون إطلاق الحرية السياسية إلى آخر المدى في الوقت الذي لم تتحقق فيه الحرية الاقتصادية إلى المدى المناسب والمعقول، هل من مصلحة المجتمع أن يفكر في التحليق؟ قبل أن يستكمل أدوات التحليق.. أم أن ضرورات الواقع، وتجارب دول حولنا، تجعلنا نتقدم خطوة هنا وخطوة هنا، ونسير على ساقين وليس على ساق واحدة، فالحرية السياسية تحمي المجتمع من الانحراف وتطلق قواه الكامنة، ولكنها لا تطعم جائعاً، ولا توفر فرصة عمل ولقمة شريفة للمحروم منهما، وإذن فإن الاتفاق على تحليق المجتمع لن يكون إلا بجناحين، وليس بجناح واحد.. الخطوة نحو مزيد من الحرية السياسية مع الخطوة التي نخطوها لتحقيق مزيد من الحرية الاقتصادية، وكل منهما تحمي الأخرى، وتدفعها نحو مزيد من التقدم، وترشد مسارها.. التفاعل بينهما مستمر، وتبادل التأثر والتأثير يجعل منهما وجهين لعملة واحدة.. ولو اتفقنا على ذلك فسوف نعفي أنفسنا من الوقوع في شباك المزايدات التي تعوق المسيرة ولا تحقق التقدم الذي نظن أننا نسرع الخطو إليه، ولا حاجة بنا إلى ذكر أمثلة كثيرة لدول حققت طفرة في مجال الحرية السياسية دون تمهيد أو تمهل أو تدرج، ولم تستطع بالطبع أن تحقق طفرة مماثلة في التنمية وعدالة التوزيع وتكافؤ الفرص، فكانت النتيجة وبالاً على الجميع.. مزيداً من التخلف.. وفوضى .. وتراجعاً في معدلات التنمية.. وتحولت الحرية السياسية إلى حرية المعارك والاقتتال والتخريب.


من هنا فإن الذين يطلبون أن يتم الانتقال في غمضة عين يرددون مطلباً خطراً، ويكفي أن نعود إلى تصريحات المسئولين في روسيا الذين زاروا مصر وأعلنوا بعد دراستهم للنموذج المصري في التحول من رأسمالية الدولة إلى اقتصاد السوق ومن الشمولية إلى التعددية السياسية، واطلعوا على البرنامج المصري للخصخصة، فقالوا إن روسيا لو كانت قد اتبعت هذا النموذج المصري لكانت قد جنبت نفسها مرحلة الفوضى والجوع والمافيا التي عانت منها كثيراً، ومازالت آثارها باقية حتى الآن، حتى أن تيار "الثورة المضادة" بدأ يظهر كرد فعل لفشل النموذج المتسرع في تحقيق الأمان في الانتقال.


ليست القضية هي الخصخصة فقط، أو المواءمة بين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية فقط، ولكن هناك قضايا أخرى كثيرة.. حماية عقول الشباب من تيارات الانحراف.. وما أكثرها.. وتحقيق الإصلاح الديني والاجتماعي الذي بدأه الأفغاني ومحمد عبده، وتحديد الحدود الفاصلة بين التدين والتعصب.. بين الإيمان وتخدير العقل، بين ثوابت العقيدة ومتغيرات الحياة الإنسانية، بين الفوضى الفكرية والسياسية وبين الديمقراطية التي هي ضمان لحيوية المجتمع وتجدد خلاياه، مهمة المثقفين أن يغرسوا في عقول الجميع مبدأ أن احترام الرأي يقتضي احترام كل الآراء.. وأن إعطاء كل الآراء فرصة للتعبير عن نفسها دون قمع أو تمييز أو تخويف هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الصحة النفسية للمجتمع، وإنه إذا كان المثقفون يرفضون الوصاية عليهم، فمن باب أولى عليهم أن يرفضوا سعي البعض منهم لفرض الوصاية على بعضهم الآخرين، أو على المجتمع كله، وإذا كنا قد رددنا كثيراً شعار "دع مائة زهرة تتفتح" فلابد أن ننقل الشعار إلى دائرة العمل، ولا نفقد التمسك به كبوصلة في العمل والتعامل مع الآراء الأخرى.


المثقفون هم أكثر الناس حساسية وإدراكاً لأهمية التعليم، وإدخال التطور الحديث في البحث العلمي والتكنولوجيا، والدفاع عن الفكر الإنساني بثرائه وتنوعه، وما نوافق أو ما نختلف عليه، وهم أكثر الناس إدراكاً لأهمية دور المرأة، وحماية الأجيال الجديدة من المخاطر الجديدة والمتجددة التي تحيط به.


والحقيقة أن المثقفين، وهم طليعة ومقدمة العمل الوطني.. وهم الرادار الحساس الذي يشير إلى الصواب ويدل على الاتجاه الصحيح هم أكثر المصريين مسئولية.. وأشدهم احتياجاً للاتفاق فيما بينهم على المبادئ الأساسية تم الاختلاف بعد ذلك.. ولابد أن ينبع ذلك منهم، دون أن يفرضه عليهم أحد.. بل ودون أن يطلبه منهم أحد.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف