أين فرسان الإدارة
إذا أعددنا قائمة بالمشاكل التي ينبغي علينا أن نجد لها الحلول المناسبة لكي نصبح مؤهلين لدخول القرن الحادي والعشرين، فسوف نجد القائمة طويلة.. المشكلة الاقتصادية .. مشكلة الإسكان، مشكلة التعليم.. مشكلة التخلف العلمي والتكنولوجي وغيرها، وهي مشاكل لا ننفرد وحدنا بها، ولكنها مشاكل دول العالم الثالث كلها دون استثناء، وإذا أردنا أن نضع الأولويات الصحيحة لنحدد بأي هذه المشاكل نبدأ، فسوف نجد أن "المفتاح" الوحيد لحل هذه المشاكل جميعاً هو "الإدارة" بل إننا سنكتشف عند التحليل النهائي أن هذه المشاكل جميعاً ليست إلا مشاكل إدارة، ولا يمكن أن ندخل القرن الحادي والعشرين بما يتناسب مع طبيعته إلا إذا نجحنا في تحقيق الهدف الذي أعلناه منذ ربع قرن ولم نحققه حتى الآن وهو: الثورة الإدارية.
ومنذ سنوات عكف فريق من الباحثين الأمريكيين على بحث أسباب التقدم الياباني المذهل وتفوقها على الولايات المتحدة في مجالات الإنتاج والتصدير والابتكار والسيطرة على الأسواق وخفض تكلفة الإنتاج، فلم يجدوا سبباً إلا تفوق الإدارة اليابانية على الإدارة الأمريكية، وهناك كتاب ياباني صدر منذ سنوات أحدث ضجة كبيرة في الولايات المتحدة ألفه ثلاثة من الخبراء والباحثين اليابانيين قالوا فيه: أن الإدارة اليابانية، متقدمة على الإدارة الأمريكية بما يساوي عشر سنوات، وأن الولايات المتحدة تبذل جهوداً كبيرة للحاق بما وصلت إليه الإدارة اليابانية ولكن ذلك لن يتحقق، لأن ذلك حين يحدث ستكون اليابان قد انطلقت إلى حيث لا يلحقها أحد، وفي ألمانيا حضرت في العام الماضي لقاءً فكرياً كان موضوعه الاستعداد للقرن الحادي والعشرين انتهى إلى أن أي استعداد، وكل تقدم مرتبط بقدرة المجتمع على تطوير نظم الإدارة وتحديث أساليبها واختيار القادة في مواقع الإدارة المختلفة وتدريبهم، وإتاحة الفرصة أمامهم لاكتساب خبرات جديدة من خلال الاحتكاك الدولي بنظرائهم في مختلف دول العالم المتقدم. وبخاصة في اليابان والولايات المتحدة.
فقضيتنا إذن هي الإدارة، وهي مشكلة المشاكل، بل هي "أم المشاكل".. ولو درسنا أوضاع الشركات الخاسرة حالة حالة، فسوف نجد أن الخسارة سببها سوء الإدارة، وأن الإصلاح لن يتم إلا بإصلاح وتغيير الإدارة.. ليس فقط بتغيير الأشخاص، فهذا ضروري ولكن الأهم منه هو تغيير العقول وطريقة التفكير وأسلوب العمل داخل كل شركة ومصلحة حكومية والحال القائم الآن بعيد كل البعد عن مفهوم الإدارة الحديثة.. بعد أن أصبحت الإدارة علماً له قوانينه وقواعده وأصوله النظرية" وأصبح تأهيل من يتولى الإدارة أمراً واجباً، لأن الإنسان مهما بلغ من الذكاء والثقافة لا يكتسب قدرات الإدارة الناجحة تلقائياً، أو بالاستنتاج ولكنه يجب أن يتعلمها بطرق مبتكرة، ومهما بلغ مستواه فيه محتاج لأن يكتسب خبرات ومهارات ومعلومات إدارية ونحن حتى الآن لم نصل إلى درجة الوعي والاهتمام بمتطلبات الإدارة الحديثة.
وفي كتاب جديد بسيط وشيق يعرض الدكتور علي عبد الوهاب وكيل كلية التجارة بجامعة عين شمس وأستاذ إدارة الأعمال مجموعة من القواعد التي يجب أن تسير عليها كل المؤسسات الحكومية والشركات ويلتزم بها كل من يتولى موقعاً من مواقع الإدارة، والكتاب بعنوان "فرسان الإدارة" يشبه فيها القادة الإداريين بالفرسان، ويرى أن دورهم ليس أن يجلسوا على مقاعد وثيرة، بل أن يركبوا خيولاً مستعدة لدخول السباق، والخيول بالطبع هي المؤسسات والشركات وأجهزتها الإدارية، ولكنه يعترف أن هناك عقبات في نظم الإدارة المصرية، والعربية بشكل عام تعوق حركة الخيل، وتجعل السباق صعباً، مثل المركزية الشديدة، وقلة التفويض، وما أدى إليه ذلك من عدم المرونة في إدارة الأعمال، ومثل استمرار نمط الإدارة القديم الذي يتميز بكثرة الإجراءات والأوراق والتوقيعات والمستندات، وتكرار بعض العمليات، وازدواج الاختصاصات والإنجاز البطيء الذي لا يحسب للزمن حساباً، وأحياناً يصل إلى درجة الجمود وعدم القدرة على تحقيق أية نتائج مما يؤدي إلى ظواهر أخرى تزيد الأمور تعقيداً مثل طول عملية اتخاذ القرار، وكثرة التعليمات، وتعدد الجهات الرقابية مما يؤدي إلى الخوف من تحمل المسئولية، وتكرار المشاكل واستمرار حدوثها بنفس النمط واقتصار العلاج على المسكنات وتخفيف أعراض المشكلة، ويضاف إلى ذلك ضعف نظم الاتصالات الإدارية، وغياب التنسيق بين الوحدات المختلفة التي تشترك في أعمال واحدة، أو تتكامل جهودها، وعدم التشغيل الأمثل للعاملين، وتكدس العمالة في بعض المجالات ونقصها في مجالات أخرى، وعدم التدقيق في اختيار الموظف للوظيفة سواء للعاملين الجدد، أو قبل الترقية، وضعف نظام الحوافز التي أصبحت نوعاً من تكملة الأجر وليست محركاً لروح العمل والمنافسة، وعدم الاهتمام بالابتكار والأفكار الجديدة، والتركيز على الحضور والانصراف على أنه مظهر الانضباط في العمل، وتحول التقارير التي تكتب عن العاملين إلى عمل روتيني تغلب عليه المجاملة والشكلية بدليل أن 90% من العاملين في الحكومة والقطاع العام يحصلون سنوياً على درجة ممتازة في التقارير السنوية، فمن أين يأتي عجز الجهاز الحكومي وخسائر الشركات إذن، إذا كان كل العاملين من الممتازين؟
ينبه الدكتور علي عبد الوهاب في كتابه الصغير الذي يضم خلاصة تجربته الأكاديمية والعملية إلى مشكلة غياب الصف الثاني للإدارة، وعدم وجود خطة منظمة لإحلال القيادات والترقية إلى المستويات الإشرافية والعليا على أساس الأقدمية فقط دون أن تكون للشخصية والقدرات القيادية والقدرة على الابتكار قيمة ملحوظة، فضلاً عن أن نبحث عمن يصلح مديراً، بينما كان الواجب أن نصنع ونعد المديرين كما تفعل كل دول العالم، لأن المدير لا يتم اكتشافه فجأة أو بالصدفة.
مشكلة أخرى مهمة هي عدم وجود "فلسفة إدارية" ورؤية حديثة للمتغيرات والتزام الإدارة المصرية بما يمكن تسميته "إستراتيجية الدفاع" بدلاً من إستراتيجية الهجوم "النشطة التي تتبعها الإدارة الغريبة واليابانية، فضلاً عن عدم تحدد أهداف كل وحدة إدارية، وأساتذة الإدارة يعرفون أن عدم وجود أهداف محددة واضحة تسبب أزمة في الفكر وتؤدي إلى الغموض والحيرة والتردد عند المديرين ومن هم أقل منهم، وما دام الجميع لم يلتقوا على هدف عام واحد، ورسالة مشتركة، فمن الطبيعي أن تكون النتيجة تفرق الجهود، وقلة الإخلاص وغياب الالتزام.
وإذا كان الدكتور علي عبد الوهاب باعتباره أستاذاً جامعياً وخبيراً في الإدارة قد حدد الخطوات العملية المطلوبة لعلاج هذه الثغرات والمشاكل، فيكفي أن نصل إلى اقتناع عام بأن حال الإدارة المصرية بشكل عام لا يصلح للقرن القادم، وأن نقطة البداية للتغيير والإعداد لدخول هذا القرن يجب أن تكون "الثورة الإدارية" وبغيرها سوف تنطلق الخيول إلى السباق دون إعداد ودون تدريب، وأهم من ذلك أن الخيول قد تنطلق إلى السباق والذين يقودونها ليسوا فرساناً حقيقيين.