شكل مجلس الوزراء مؤخراً مجموعة وزارية للثقافة والدعوة، أوكل إليها مهمة تأخرنا كثيراً في إنجازها بصورة مرضية، وهي وضع إستراتيجية موحدة لمواجهة الفكر المتطرف، ومعالجة ظاهرة الفراغ الثقافي خاصة بين الشباب، ورغم أن هذه الخطوة جاءت متأخرة إلا أنها تمثل احتياجاً ملحاً في المجتمع في هذه الفترة بالذات.
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك محاولات واجتهادات وجهوداً قامت بها وزارات وأجهزة لكنها، إذا أردنا الصراحة، كانت جهوداً جزئية، وكانت تتم دون تنسيق بين الأجهزة، وبالتالي لم تصل إلى التكامل ولم تحقق نتائج كبيرة بالقدر المطلوب والمأمول بالقياس لحجم وخطورة الإرهاب المتربص بالوطن.
وكل من تناول ظاهرة الإرهاب بالتحليل للعوامل والأسباب التي أدت إلى ظهورها، قال أن الإرهاب يبدأ في الفكر.. يغزو العقول.. ويغرس أفكار ومعتقدات ومبادئ عدائية للمجتمع كله دون استثناء.. وتكررت الإشارة إلى انتشار قيم ثقافية تساند التطرف، مستندة إلى القضايا الأساسية التي يبدأ منها.. وهي أولاً التشكيك في عقيدة المسلمين.. والحكم عليها بالكفر.. والاستناد إلى نصوص تعطي لمن يريد أن ينصب نفسه حكماً ومنفذاً للشريعة بأن يأخذ بيده سلطة عقاب من يحكم عليهم – هو أو جماعته – بالخروج عن جماعة المسلمين.. مع ترديد أفكار بعينها تنتمي إلى عصر مختلف، وإلى ظروف سياسية واجتماعية بعيدة كل البعد عن ظروف المجتمع الإسلامي الآن.. والاستناد إلى تفسيرات معينة لنصوص اختلف في تفسيرها علماء الشريعة منذ قرون.. ولم يروا في الاختلاف ما يستوجب القلق أو التمرد .. بل رأوا فيه خصوبة وثراء وحيوية في الفكر الإسلامي كفيلة بأن توفر له التجدد والاستمرار لكل زمان ومكان.
وكثيراً ما كان يقال أن المواجهة الأمنية مهما حققت من النجاح، فإنها لا تستطيع أن تصل إلى عقول ووجدان الشباب ولا تملك أدوات تغيير المفاهيم ودوافع السلوك، ولكن الذي يملك ذلك هو أجهزة منابر الدعوة الدينية، وأجهزة الثقافة، ومؤسسات التربية وظلت هذه المجالات الثلاثة دون تنسيق كاف، ودون خطة عمل شاملة وموحدة، بل ودون وضوح الفكر المضاد للإرهاب الذي يتلاءم مع طبيعة المجتمع، ويتقبله الشباب، ويتأثر به، إلى أن يصبح هو "الفكر البديل" ويحل هذا الفكر التقدمي الذي يلائم العصر محل الفكر الرجعي الذي يسعى إلى جر المجتمع إلى الوراء إلى عصور تخلف وظلام فكري.
وغياب التنسيق بين الأجهزة المتعددة مشكلة مصرية قديمة تؤدي دائماً إلى تشتت الجهود، وقلة العائد، وربما إلى تضارب أو تداخل، أو تكرار الجهود التي تقوم بها هذه المؤسسات المتعددة.
من هنا نرى أن تشكيل هذه المجموعة الوزارية هو البداية الصحيحة التي تدل على أن مرحلة قد بدأت يمكن أن نشعر معها بالأمل في أن يتحقق الأمل في إعادة إحياء ثقافة جديدة، وإعادة بناء العقل المصري بما يتفق مع التقدم الذي حققته البشرية وهي توشك على دخول القرن الحادي والعشرين.
وإذا كانت قضية التنسيق المفتقد هي القضية الأولى، فإن القضية الثانية هي تحديد معالم الفكر المتطرف الذي نريد محاربته، لأننا حتى الآن لم نتفق عليه، وقد أدى غياب الوضوح إلى أن وصلت أقلام وأفكار متطرفة إلى منابر وساحات إعلامية وثقافية، واستطاعت أن تنشر وتعمق قاعدة الفكر الإرهابي على أوسع نطاق.. فنقول علناً أن الشريعة مهدرة.. وأن رجالها مضطهدون.. وأن المثقفين الذين نزهو بهم في العالم هم جماعة من المرتدين والخارجين على الشريعة.. واستطاعت أيضاً أن تنشر مفاهيم متطرفة، وتلصق تهمة العلمانية بكل من يتحدث عن حرية الفكر والعقيدة.. أو يقدم إبداعاً له قيمة في أي مجال من مجالات العلم، أو الأدب، حتى أصبحت كلمة "العلمانية" قرينة لكلمة "الكفر بالله" وأصبح من الصعب إعادتها إلى مفهومها الحقيقي وهو الفصل بين أمور الدين وأمور الدنيا.. بحيث يكون التعامل في أمور الدين بالتسليم لأوامر الدين الجازمة والالتزام بالمبادئ الجوهرية في العقيدة، وإطلاق حرية العقل والبحث العلمي في شئون الدنيا.. وهو موضوع يحتاج إلى تفصيل ولكنه مثال جيد لقدرة أصحاب الأقلام والمنابر المغرضة على تلويث الفكر الصحيح، وإلصاق الاتهام بأي فكر أو مصطلح، ومطاردة كل من يفكر في الإصلاح أو التحديث أو تحقيق التقدم في العلم أو الفكر.
ونتيجة لعدم الاتفاق على ما هو الفكر المتطرف لم يكن ممكناً الاتفاق على الفكر المستنير الذي يجب أن يسود، وهذا هو ما أدى إلى حدوث "الفراغ الثقافي" الذي تشكو منه، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها وزارات التعليم والإعلام والثقافة، ورغم جهود عظيمة من بعض المثقفين، إلا أنها كانت جهوداً فردية، وجزئية، ولا يجمعها إطار فكري واحد، أو تعمل في تناغم في منظومة واحدة.
ليس المقصود العودة إلى مجتمع "الفكر الواحد" بأي حال من الأحوال، ولا أن يكون التفكير في إطار محدد بقرار، ولكن المقصود هو أن تعمل الأجهزة المختلفة في مجالات التأثير الثقافي والتربوي والإعلامي وهي تعرف بالضبط ماذا تريد وماذا ترفض.. وتعرف بالضبط الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه.. وطبيعة الفكر الذي تحاربه والفكر الذي تغرسه.
وفي كل مرة كان يطرح هذا الموضوع، كانت تتم مناقشته بسرعة، ويكتفي فيه بتصريحات تفيد أن كل شيء على ما يرام والعمل يسير على أفضل ما يكون.. وحين كنا نشكو مثلاً من أن عدداً كبيراً من منابر مساجد وزارة الأوقاف تترد عليها مقولات المتطرفين تحرض المصلين كل يوم جمعة ضد المجتمع ونظامه وفكره، كان المسئولون يكتفون بالقول بأن هذا غير صحيح، وأنه تم عقد مؤتمر هنا أو هناك وكان مؤتمراً أو عشرين مؤتمراً يمكن أن تحقق هدف بناء العقول والضمائر والعقائد على أسس سليمة.
وحين كنا نقول أن عقول الشباب تعاني من الفراغ الفكري والثقافي والسياسي، وأنه لابد من عمل يومي دائم ومنظم وهادف لملء هذا الفراغ، كان الرد يأتينا بأنه ليس ثمة فراغ إلا في عقولنا نحن، إلى أن جاءت المجموعة الوزارية فأصدرت بيانها الأول بأنها ستعمل على وضع تصور لمشروع قومي كبير لمواجهة الفراغ الثقافي.
وما دامت قضية "الفراغ الثقافي" قد تم الاعتراف بوجودها أخيراً ورسمياً، فإن هذا يدعونا إلى التفاؤل إلى أن العمل هذه المرة سيكون على الطريق الصحيح.. وإن كانت المجموعة الوزارية تستحق التحية على هذه البداية، فإن التحية لها ستكون أكبر لو أنها نظمت لقاءات تستمع فيها إلى آراء وتصورات كبار المثقفين، لكي تضمن تكامل الرؤية فلا تقتصر على رؤية الأجهزة الحكومية وحدها، ولكي تضمن حماس المثقفين وتفاعلهم معها وقيامهم برسالتهم لتنفيذ هذا المشروع الثقافي القومي الكبير عن اقتناع، وهذا هو المفتاح لنجاح هذا المشروع الذي يعتبر أهم مشروعات إعداد مصر لمستقبل جديد.