الحكومة ... والقانون
بدأت الوزارة الجديدة عهدها بقرارين في غاية الأهمية.. تتجاوز أهميتها النتائج المباشرة لتنفيذها إلى ما هو أكبر وأعمق .. وهو اتصالهما بأساس الحكم وفلسفة النظام، وعلاقة الدولة بالشعب.. وهي أمور تتصل في النهاية بالشرعية، وبمدى قدرة الحكومة على إيجاد جسور للثقة بينها وبين المواطنين.
كان القرار الأول هو رد الأموال التي حصلتها الحكومة من المواطنين بعد أن حكم القضاء بعدم أحقيتها في تحصيلها، وهي ضريبة العاملين بالخارج التي قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية القانون الذي فرضت به، ومقتضى هذا الحكم – بحكم الدستور – أن يصبح القانون كأن لم يكن، وبالتالي يكون تحصيل هذه الضرائب على غير أساس، ويجب ردها لأصحابها على الفور.. والقضية هي: هل تأخذ الحكومة أموال الناس بالحق أو بالباطل.. ولما كانت الحكومة هي القوة في التفكير والسلوك.. وما تفعله بالناس سيصبح بالضرورة قاعدة عامة سائدة يفعله المواطنون مع الحكومة ذاتها، ومع بعضها البعض.. لذلك كان الواجب أن تشرع الحكومة في رد هذه الضريبة على الفور.. أو على الأقل أن تعلن إنها ستردها في مواعيد محددة.. ولكن ظهرت نظرية نفعية تقول أن الحكومة حصلت من هذه الضريبة على ألف مليون جنيه من العاملين بالخارج ومن الصعب أن ترد هذا المبلغ الكبير.. إلى أن جاءت وزارة الدكتور الجنزوري بفلسفة جديدة هي أن الحكومة لا يمكن أن تأخذ ما ليس من حقها.. ولا يمكن أن تماطل في أداء حقوق الناس بينما هي تطالبهم بأداء واجباتهم، فقررت رد هذه الضريبة على دفعات وبدأت التنفيذ.
هذا القرار في غاية الأهمية، أولاً لأنه كان إعلاناً – بالعمل وليس بالكلام – أن هذه الحكومة حريصة على مصالح الجماهير وحقوقها، وثانياً لأنه أعاد الطمأنينة إلى النفوس أن حقوق المواطن لن تضيع عند الحكومة كما تعود على ذلك.. فما من مرة ظهر لمواطن أنه سدد الضرائب بأكثر مما عليه واستطاع أن يسترد الزيادة.. ثم انتشر ذلك في فاتورة الكهرباء.. والتليفون.. وفي رسوم العوايد والشهر العقاري ..و..و.. حتى أصبحت صورة الحكومة في ذهن المواطن مرتبطة بالجباية.. وبالأخذ بحث وبغير حق.. وبالمماطلة والتسويف.. وتأكد للناس أن فلسفة "الطناش" هي التي تعتنقها الحكومة حين يكون عليها أن تدفع، وفلسفة "السريعة" حين تأخذ.. وإذا استقر ذلك كمبدأ عام للتعامل في المجتمع فإنه يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة.
وبدلاً من أن تعلن الحكومة وقتها التزامها بتنفيذ الحكم أعلنت إنها لن تنفذه إلا بالنسبة لمن رفع دعوى وحكم له القضاء بأحقيته في استردادها، ومعنى ذلك أن على كل مواطن أن يذهب إلى محام، ويدفع رسوماً وأتعاباً، ويضيع من عمره سنة أو أكثر في المحاكم لكي يحصل على حكم قد تنفذه الحكومة وقد لا تنفذه، وإذا نفذته فقد تفعل ذلك في سنوات لا يعرف عددها إلا الله.
وكانت النتيجة المباشرة لمثل هذا التصرف أن قلت تحويلات المصريين بالخارج، وربما كان ذلك نوعاً من الاحتجاج النفسي المكتوم على هذه المعاملة لحقوق أصحاب الحقوق..
ولم تكن هذه حالة وحيدة، بل كانت هناك حالات أخرى لا تقل عنها اتصالاً بأعداد كبيرة من المواطنين.. على سبيل المثال: أصدرت المحكمة الدستورية حكماً في 20 سبتمبر عام 94 يقضي بأن كل من خرج إلى المعاش في أول ابريل 84 حتى 30 يونيو 87 له الحق في زيادة معاشه عن الأجر المتغير إلى 50% ولم تنفذ الحكومة هذا الحكم..واضطر البعض إلى اللجوء إلى المحاكم لاستصدار أحكام لكل منهم بإلزام الحكومة بتنفيذ الحكم بالنسبة له، مع ما في هذا من إرهاق خاصة والموضوع يمس كبار السن الذين مات بعضهم وقضى نحبه وبعضهم ينتظر دون أن يحصل على حقه.
هذه ليست شكاوى من المواطنين، ولكنها قضية سياسة بالدرجة الأولى.. تتعلق بقيمة القانون والقضاء.. وبأسلوب الحكومة في التفكير والتعامل مع المواطنين.. وفي مدى احترامها أو عدم احترامها لحقوقهم..
لذلك جاءت مبادرة الوزارة الجديدة لكي تعيد الأمل في أن تسود علاقة من نوع جديد بين الحكومة والمواطنين .. علاقة أساسها القانون والحق.. من له حق لابد أن يأخذه.. ويأخذه كاملاً غير منقوص.. ويأخذه بسهولة دون عنت.. ويأخذه فوراً دون إبطاء.. وإذا تعذر إعطاء الحق على الفور فيمكن أن يتم ذلك على مراحل معلنة ومحددة ويتم الالتزام بها.. فإذا تأكد لدى المواطنين أن هذه هي سياسة الحكومة فسوف تعود إليهم الثقة فيها.. ويطمئنوا إليها .. ويعطوها عن طيب خاطر مادامت تأخذ الحق وتعيد ما ليس من حقها.. وما دامت حقوق المواطن في أيد أمينة.
الفكرة ليست في إعادة الأموال.. الفكرة هي مبدأ العدل.. مبدأ الحق.. والهدف هو إيجاد جسور الثقة والطمأنينة والاستقرار في العلاقة بين الحكومة والمواطنين.. الفكرة هي مكانة القانون في المجتمع.. ومن الذي يقهر على تنفيذه ومن الذي يستطيع أن يمتنع.. إذا امتنعت الحكومة عن تنفيذ القانون لأنها الجانب الأقوى في العلاقة، فسوف يستقر في المجتمع أن القوي يستطيع دائماً ألا يخضع للقانون.. وتتحول العلاقة من علاقة قائمة على الحق إلى علاقة قائمة على القوة، ولعل هذا يفسر لنا انتشار مظاهر استعمال القوة في علاقات الناس بعضهم ببعض.. من لديه سلطة يستعملها ضد الآخرين.. ومن لديه أسلحة يستخدمها لإرهاب الآخرين.. وفيما حدث في انتخابات مجلس الشعب ما يكفي لتأكيد ذلك بما يكفي ويزيد.
القرار الثاني للحكومة الذي أكد هذا الخط هو حظر فرض رسوم على المواطنين تحت أي مسمى بغير قانون.. بعد أن توسعت المحافظات في فرض أنواع غريبة من الرسوم لمجرد "زيادة الموارد" أو زيادة حصيلة صناديق إنشائها بغير قانون.. وامتد المرض إلى مؤسسات وهيئات بدأت تفرض رسوماً على العاملين فيها والمتعاملين معها دون سند من القانون.. وتحولت المسألة إلى ما يشبه الفوضى.. الشاطر من يجمع من الناس أكبر قدر من المال تحت ضغط احتياجهم للتعامل مع هذا الجهاز أو ذاك لقضاء مصلحة أو الحصول على حق.. وجاء وقف هذا المرض الأخلاقي الغريب في الوقت المناسب قبل أن يتحول إلى وباء.
من هنا يمكن أن نصدق الوزارة الجديدة حين تعلن إنها ستعمل على تحقيق "الانضباط" في أجهزة الحكومة.. وفي الشارع.. وفي السوق.. وفي سلوك الناس وعلاقاتهم.. لسبب بسيطة، هو أنها بدأت بنفسها.. وإذا التزم الحكومة بالانضباط فشيمة أهل البلد كلهم ستكون الانضباط دون أدنى شك.