أهمية العمل السياسي

منذ أيام دعانا وزير النقل المهندس سليمان متولي لمشاهدة ما تم تنفيذه من مشروع مترو الأنفاق من شبرا الخيمة إلى ميدان رمسيس، وتصورت أن ما سنراه هو انتهاء أعمال الحفر والإعداد ثم نسمع الاعتذارات المعتادة عن أسباب تأخير العمل عن البرنامج المقرر وفي حجة نقص الاعتمادات المعتادة ما يكفي...ولكن ما رأيته كان شيئاً مختلفاً تماماً عما توقعت.. وعدت من الرحلة بقضايا بالغة الأهمية..


كانت المفاجأة الأولى أن المشروع انتهى تنفيذه، ليس في الوقت المجدد وفقاً للبرنامج، ولكن قبل ذلك..والمفاجأة الثانية أن تكاليف المشروع خمسة آلاف مليون جنيه وتم التمويل بمساهمة من الإمكانات الذاتية لقطاع النقل ذاته.. والمفاجأة الثالثة أنه ليس هناك شركة أجنبية تولت تنفيذ المشروع من الألف إلى الياء.. ولكن هيئة الأنفاق بإداراتها المصرية هي التي وضعت التخطيط، وتولت التنفيذ، وهي التي طرحت المناقصات العالمية، وأسندت التنفيذ إلى عدد من الشركات الفرنسية والإيطالية واليابانية والألمانية والمصرية وأن كل أعمال المقاولات تمت بشركات وبأيد مصرية.. وعمل في المشروع أربعة آلاف مصري ولم يزد عدد الأجانب على 250 فنياً في كل التخصصات.


هذا- المشروع بأي مقياس مشروع عملاق، ليس بمقياس العصر فقط بل وبمقاييس المستقبل، وهو لن يخدم أبناء هذا الجيل وحده .. ولكنه سيخدم الأجيال القادمة من المصريين.. واقتطاع خمسة آلاف مليون جنيه من أموال دافعي الضرائب المصريين من أجل هذا المشروع يعطيهم الحق في أن يعلموا ما يحدث فيه يوماً بيوم، ويشاركوا في متابعته.. ويشعروا بالفخر والاعتزاز.


ليس هذا المشروع العملاق وحده هو الذي يتم تنفيذه بجدية من أجل المستقبل.. هناك عشرات المشروعات العملاقة التي لا تقل عنه في أهميتها حضارياً أو في حجم تمويلها...وكل منها يمثل معركة قومية تنتصر فيها الإرادة المصرية هناك مثلاً معركة قومية تنتصر فيها الإرادة المصرية هناك مثلاً معركة بناء 1500 مدرسة كل سنة.. وقد تم ذلك فعلاً وهناك أكثر من ثلاثة آلاف مدرسة جديدة تماماً استقبلت التلاميذ وبدأت العمل وهي مدارس عصرية بمعنى الكلمة.. فيها معامل ومكتبات وملاعب.. وفي بعضها أجهزة كمبيوتر يتعلم التلاميذ بإعداد المناهج التعليمية في لوحات ورسوم متحركة وبأساليب حديثة على ديسكات وزعت على المدارس.. وبعض هذه المدارس تم ربط أجهزة الكمبيوتر فيها بمراكز المعلومات الكبرى في العالم.. ومازالت عمليات البناء قائمة بنفس المعدلات دون نقص.


هناك أيضاً مشروعات الإعلام التي تحققت .. بغزو الفضاء عن طريق القناة الفضائية ومدينة الإعلام.. وهي تمول بمئات الملايين ودون تحميل الدولة كل الأعباء.


مشروعات كثيرة في الصناعة تنفذ.. وفي استصلاح الأراضي.. أكثر من أن يحصيها الإنسان، لكن المشكلة أن وعي المواطنين بهذه المشروعات ليس بالدرجة الكافية ليس هناك شعور عام كامل بأن الدولة أصبحت منذ سنوات في حالة تعبئة من أجل البناء والتنمية.. وليس هناك إدراك كاف لما تحقق بالضبط.. وليس هناك شعور بالزهو والفخر الذي كان يجب أن يملأ النفوس.. وليس هناك هذا الحشد الشعبي الشامل وراء هذه المشروعات باعتبارها معارك حياة أو موت.. من أجل الأجيال الجديدة، لماذا يحدث ذلك.. وكيف وصلنا إلى درجة أن يكون الإنجاز كبيراً جداً.. والإحساس به قليل جداً.. ولماذا يردد البعض إننا نحتاج إلى مشروع قومي يجند الشباب ويمتص طاقتهم ويجذب أرواحهم إليه ويملأ نفوسهم بالأمل وبالإحساس بأن بلدهم يتقدم نحو الأفضل.. بينما المشروع القومي موجود ليس اليوم بل ومنذ سنوات وهو مشروع محدد وواضح المعالم ويسير العمل فيه بخطوات ثابتة ومطردة وتواجهه عقبات ومشاكل يتم التغلب عليها بمعارك أخرى.


إن ما حدث في مصر خلال السنوات العشر الأخيرة يفوق ما تم بناؤه منذ عصر محمد علي ومشروع مثل مترو الأنفاق الأول والثاني يمثل حجم أعمال السد العالي عشرات المرات سواء من ناحية الإنشاءات والتكنولوجيا أو من ناحية التمويل وكذلك مشروع بناء المدارس يفوق مشروع السد العالي عشرين مرة والمصانع التي تم بناؤها تزيد على ثلاثة أمثال المصانع التي أقيمت في الفترة من عام 1952 إلى عام 1980 والمدن والمساكن الجديدة لا يمكن مقارنتها بما تم في مجالها في أي عصر سابق.


أما المشروع القومي الذي يتحدث عنه البعض والذي تنفذه الدولة في مصر منذ أكثر من عشر سنوات فهو: بناء مصر الحديثة.. وإعادة بنائها من جديد لكي تساير القرن الحادي والعشرين.. وهذه معركة أكبر من أي معركة خاضتها مصر في كل تاريخها الطويل.


لماذا تلاحظ أن الإحساس الشعبي العام بكل هذا الإنجاز ليس بالقوة الواجبة وأن إدراك هذا المشروع القومي الكبير الشامل بما ينطوي عليه من مشروعات عملاقة ليس هناك من سبب إلا أن هذه المشروعات لم يواكبها عمل سياسي على مستواها.. عندما كان السد العالي يجري بناؤه كانت تتم عملية حشد شعبي منظم، وكانت ملايين المواطنين تعيش تفاصيل المعركة، وتتابع عملية البناء يوماً بيوم، وكان الأمر يبدو وكأن هناك معجزة يقوم بها المصريون..هذا العمل السياسي المنظم هو الذي جعل المصريين يتحملون عن رضا ما طالبتهم به القيادة السياسية من شد الأحزمة على البطون، لأنهم كانوا مدركين أين تذهب أموالهم..وكل مصري كان مستعداً لأن يقدم تضحية أكبر ما دام ذلك من أجل السد العالي..وهذا العمل السياسي تم أيضاً بنجاح في معركة إعادة بناء ما هدمه الزلزال منذ عامين..ولكنه لم يتحقق مع بقية المشروعات بمثل هذه القوة كما كان يحدث أيام بناء السد العالي.


وهذا هو ما يجعل البعض يتحدث عن ضرورة أن يكون لمصر مشروع قومي وهو لا يدري أن المشروع القومي قائم وقطع شوطاً كبيراً في التنفيذ.. لأن العمل الذي يتم شيء والإحساس بهذا العمل شيء آخر.. النجاح شيء والشعور بالنجاح شيء آخر.. الإنجاز في الواقع يتمثل في المباني والإنشاءات والآلات.. لكن ما يحدث في داخل نفس كل إنسان نتيجة الإنجاز هو الأهم.. لأنه هو الذي يجعله يتحمل الصعوبات والتضحيات اللازمة لذلك ويجعله يحس بالفرح الذي يملأ النفس بالرضا، ويثير حماسه لبذل جهد وتضحية أكبر.


وأعتقد أن هذا العمل السياسي هو ما نحتاج إليه اليوم إذا كنا نريد مشاركة الملايين في العمل والتضحية من أجل بناء المستقبل وهي تضحية لابد منها.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف