درس لكــل القيــــادات

جاءت زيارة الرئيس حسني مبارك لمدينة الأقصر، محملة بالدلالات التي تحتاج إلى تحليل، لأنها يمكن أن تهدينا إلى نقاط جوهرية لابد أن نلتف إليها لترشيد العمل العام في هذه المرحلة.


جاءت الزيارة متفقة مع أسلوب الرئيس في اتخاذ القرار، فقد نشأت مشكلة إذ تم بناء كوبري يربط الضفة الشرقية لمدينة الأقصر حيث كتلة العمران بالضفة الغربية حيث مقابر الملوك ومناطق الآثار النادرة التي تمثل ثروة لا يمكن أن تقدر بالمال ولا يمكن تعويضها، فبالنسبة للحضارة الإنسانية كلها وبعد أن انتهى إنشاء الكوبري استيقظت بعض أجهزة الدولة فرأت أنه سوف يجعل الانتقال بين الضفتين سهلاً، وأن هذا إغراء للطبقات الباحثة عن أماكن لإقامة المساكن العشوائية لأنهم سيجدون الأرض واسعة وبالمجان، وبعد فترة يمكنهم الضغط لتوصيل المياه والكهرباء ويصبح لوجودهم شرعية، ولعدم وجود صرف صحي وصعوبة توفيره الآن، فإن ذلك سيهدد المنطقة ويفقدها الحماية والأمان والعزلة التي توفر الحماية للآثار.


وكشفت قصة الكوبري عن حقائق مهمة:


أولاً: أن فكرة هذا الكوبري قديمة جداً ترجع إلى الستينيات وكانت تمثل أملاً للمشتغلين بالسياحة لأنه يسهل انتقال السياح ويوفر لهم الراحة والأمان بدلاً من اضطرارهم لاستخدام "المعديات" بما يمكن أن تنطوي عليه من مخاطر، وبدأ التنفيذ منذ عشر سنوات تقريباً بعد أن وافقت هيئة الآثار، ووزارة السياحة، وبعد أن وافق جميع الوزراء في اجتماع لمجلس الوزراء أصدر قراراً بذلك. وعند هذا المستوى لابد أن نفترض أن كل المخاطر والاحتمالات والاعتراضات قد نوقشت وحسمت، ولكن وزير الثقافة ووزير السياحة اعترضا على الكوبري بعد أن تم بناؤه وأنفق عليه أكثر من عشرين مليون جنيه، وكلاهما يزور الأقصر عشرات المرات كل عام، ولابد أنه على علم كامل بأن هذا الكوبري يتم بناؤه. فالقضية الأولى هي أن التحرك أو الاعتراض لم يتم في الوقت المناسب، وهذا خطأ، والقضية الثانية أن كل قضية انتهينا من دراستها ومناقشتها لا نجد مانعاً من إعادة البحث، من جديد.. وهكذا ندور في حلقة مفرغة.. ولا نتقدم إلى الأمام وهذا أيضاً خطأ يعوق تقدمنا.


ثانياً: كشف الكوبري أن التنسيق بين الوزارات وأجهزة الدولة مفتقد، وأن كل جهة تلقي المسئولية واللوم على الجهة الأخرى، وأمام الرئيس استمعنا إلى وزير الثقافة يشكو من وجود عشوائيات في المنطقة، ويشكو أجهزة الإدارة المحلية لأنها أعطت تصريحات بإدخال المياه والكهرباء إليها، ثم استمعنا إلى وزير الإدارة المحلية ورئيس المدينة وهما يؤكدان أنه لا شأن للمحليات بذلك، وأن هيئة الآثار التابعة لوزير الثقافة هي التي تعطي الموافقة والتصريح و تنفذها شركات المياه والكهرباء دون أن يكون للمحليات دور، وإزالة التعديات والعشوائيات أيضاً لا يتم إلا بقرار من هيئة الآثار ومعنى هذا أن الأمر كله في يد وزارة الثقافة ومع ذلك فهي تلقي اللوم على غيرها وهذه مشكلة إدارية وتنظيمية تحتاج إلى حل حاسم.


ثالثاً: أن أصحاب "المعديات" أيضاً تحركوا دفاعاً عن مصالحهم وهم ليسوا من صغار ملاك المراكب ولكنهم من أصحاب الثروة والنفوذ ويحققون أرباحاً خيالية وهم كغيرهم من أصحاب المصالح يستطيعون إثارة رأي عام لخدمة مصالحهم يبدو في ظاهره كأنه موجه للمصلحة العامة ولوجه الله والوطن، وهذا يطرح قضية الضغوط التي يمارسها أصحاب المصالح وفي كل مجتمع ديمقراطي وأيضاً في كل مجتمع تتسع فيه قاعدة الرأسمالية وأصحاب المصالح وملاك المشروعات من حق كل فئة أن تدافع عن مصالحها المشروعة وتشرح و جهة نظرها وتمارس الضغط ولكن ذلك محكوم في النهاية بتحقيق التوازن بين المنفعة التي يحققها أصحاب المصالح والمنفعة العامة ومصلحة المجتمع ككل، والقرار في النهاية لابد أن يحقق هذا التوازن لكيلا يختل الميزان لصالح فئة على حساب فئات أخرى أو على حساب المصلحة العامة. وقد لمسنا ممارسات أصحاب المصالح في حالات كثيرة للضغط على سلطات إصدار القرار في الدفاع عن حق أصحاب المدارس الخاصة في تحقيق أرباح طائلة ورفع المصروفات دون ضوابط.. وفي مقاومة تطوير المجمعات الاستهلاكية لكي تخلو السوق للمحتكرين والمتلاعبين بالسلع والأسعار وفي ظهور جمعيات وهيئات تعمل لخدمة بعض جماعات من أصحاب المصالح بشكل غير مباشر مثلاً تروج مفاهيم خاطئة عن فلسفة "اقتصاد السوق" على أنها تعني إطلاق حرية أصحاب رؤوس الأموال في التحكم في السوق باعتبارهم الطرف الأقوى وانتهاء دور الدولة واعتبار أي تدخل من جانبها عدواناً على مبدأ "اقتصاد السوق" نحن نحتاج إلى الاعتراف بحق جماعات الضغط وجماعات أصحاب المصالح في العمل لتحقيق مصالحها دون مصادرة حق الآخرين في الدفاع عن مصالحهم أيضاً ودون عدوان على واجب الدولة في التدخل في الوقت المناسب لحماية المجتمع والمواطنين، ونحتاج إلى أن تكشف جماعات المصالح عن نفسها وعن أهدافها لكي يتم الحوار معها علناً وصراحة وفي النور بدلاً من الوضع الحالي الذي تمارس فيه ضغوطها من وراء ستار بحجة أنها المدافعة عن مصالح البلد كله.


رابعاً: أن خلافات الأجهزة تؤدي كثيراً إلى ضياع الحقيقة وصعوبة التوصل إلى القرار الصحيح وتبدد الوقت والمال وتستهلك طاقة القيادات العليا، وهذا يفرض علينا أن نتعلم ونفرض بصرامة أسلوب العمل الجماعي وروح الفريق بدلاً من روح الجزر المنعزلة الذي تعمل به بعض الوزارات والأجهزة الآن.


خامساً: أن الزيارة كانت تعبيراً عن طريقة الرئيس في التعرف على المشاكل برؤيتها على الطبيعة وعدم الارتكان إلى التقارير لأن تقارير الأجهزة أحياناً مضللة وأحياناً غير معبرة عن الواقع الحي.. والرئيس – كقائد يدرك مسئولية القرار في أي موضوع – لا يتخذ القرار إلا بعد أن يطمئن ضميره إلى سلامة المعلومات التي يبني عليها القرار وإلى إحساسه بالمشكلة كما هي مباشرة ودون وسيط.


وهذا هو المنهج الذي نحتاج إليه و لابد أن تقتدي به كل القيادات التي تعتمد على التقارير وعلى عيون الآخرين، وقد يكون الأمر صعباً على القيادات لأنه يحملها مشقة فوق الطاقة ولكن إذا كان رئيس الدولة بكل مسئولياته الكبرى يفعل ذلك فكيف لا تفعله القيادات الأدنى .


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف