ترتيـــب الأولويـــــات

لم يحدث في تاريخ مصر أن تجمعت قضايا الإصلاح والبناء وفرضت نفسها بإلحاح كما يحدث الآن.. فالقضايا كثيرة.. وكلها مهمة.. ويتوقف نجاحنا في اجتياز صعوبات مرحلة التحول التي نعيشها الآن على مدى الوعي ووضوح الرؤية لهذه القضايا من ناحية، وعلى قدرتنا على النفاذ في جوهرها وترتيب الأولويات بينها، وعدم السماح بتشتيت الجهود، من ناحية ثانية.


فليس هناك مجتمع.. أو فرد – يستطيع أن يفعل كل ما هو واجب ومطلوب منه مرة واحدة وفي وقت واحد، فإذا كانت هناك مهام متعددة ضرورية ومهمة، فإن المنطق والعقل، وضرورات الواقع، ومحدودية الجهد والوارد، تفرض ترتيب هذه الواجبات. وبعض الناس لا يدركون هذه المسألة رغم أنها بديهية وليس هناك بديل آخر لكنها مسألة ليست سهلة كما تبدو لأنها تحتاج إلى بصيرة، وقدرة على الإحاطة بظروف الحاضر واحتمالات المستقبل، وهذا النوع من البصيرة ليس متوفراً لكل إنسان.


ولاشك أن هناك قضايا كثيرة في حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية تندرج تحت باب الضرورات مثل تغيير الدستور ليلاءم مرحلة الانطلاق الجديدة بما جد فيها من مفاهيم ومبادئ اقتصادية وسياسية، مثل تجديد القيادات لإعطاء فرصة لوجوه جديدة واجتهادات جديدة، وأمثال ذلك كثير من القضايا المهمة التي تشغل بال المفكرين والكتاب والسياسيين، وهي قضايا تحتاج إلى دراسة وتفهم ولا يمكن التقليل من أهميتها، ولكن لابد أن نحذر من الاستسلام لكل ما هو مهم ومفيد قبل تفكير ومراجعة لكيلا نتوه في زحام القضايا والمشاكل والضرورات والواجبات نحتاج إلى أن نتفق أولاً على ترتيب الأولويات، ولا ننساق وراء من يدعى بأنها جميعاً على درجة واحدة من الأهمية.. لأنه من غير المعقول أن نخوض عشرات المعارك، وليس هناك مجتمع رشيد يبدد طاقته في جبهات متعددة في وقت واحد.


من هنا كانت أهمية دعوة المصريين إلى أن يحشدوا جهودهم وراء قضيتين أساسيتين هما: الاستقرار، والتنمية ليصبحا هما بوصلة العمل، وفي ضوء ما يستلزمه العمل فيهما يأتي ترتيب الواجبات الوطنية، فالاستقرار يعني ضرورة حماية الجبهة الداخلية ووحدة وتماسك الشعب المصري، وعدم السماح بأي عمل أو فكر يمكن أن يؤدي إلى الإضرار بها.


كما يعني محاربة الإرهاب بكل الصور التي يظهر بها، ومن وراء الأقنعة التي يتخفى وراءها لأن الإرهاب هو الخطر الأول الذي يهدد كيان ووجود المجتمع، وبخاصة الفكر الذي يتسلل إلى العقول بدعوى أنه فكر معتدل يدس في ثنايا اعتداله بمكر شديد الأفكار الأساسية لدعاوي الإرهاب من اتهام المجتمع بالكفر والتحريض على العنف تحت ستار تغيير المنكر والادعاء بأن السلطة تعادي الشريعة، إلى غير ذلك من الأكاذيب التي يعمل بها فكر الإرهاب إلى الدعوة إلى ارتكاب جرائم القتل والتخريب والإدعاء بأن ذلك جهاد في سبيل الله..


ولا أحد يعرف كيف يمكن أن يكون تخريب بلاد المسلمين.. وقتل المسلمين الآمنين.. جهاداً في سبيل الله.. أن مقاومة هذا التيار الغريب والعدائي الذي يسعى إلى تدمير أوطان المسلمين من الداخل لابد أن تكون له الأولوية على سائر القضايا الأخرى، خاصة بعد أن تحول الإرهاب إلى قوات منظمة ومسلحة وممولة، وتحولت عمليات الجماعات الإرهابية إلى نوع من الحرب الشاملة ليس في مصر وحدها بل في بلاد أخرى كثيرة مسلمة وغير مسلمة وتكشف الحقيقة وهي أن هناك تنظيماً دولياً ومخططاً شاملاً وأجنحة في كل الدول.


وفي ظروف الحرب تتغير الأولويات، وتكون لمواجهة العدو المتربص أولوية مطلقة، وتؤجل كل القضايا الأخرى، أو تتراجع في الترتيب.


والاستقرار مرتبط بالتنمية، كلاهما وجهان لعملة واحدة، والتنمية هي الأخرى معركة شاملة، ميدانها واسع، ومتطلباتها تحتاج إلى تكريس كل طاقات وإمكانات المجتمع، فهي تحتاج إلى موارد. كما تحتاج إلى جهد سياسي لتجميع المدخرات وجذب أصحاب الأموال.


في الداخل، ولتشجيع المستثمرين في الخارج لإقامة مشروعات إنتاجية، كما فعلت النمور الأسيوية التي نتحدث عنها كثيراً ونطالب بأن نكون مثلها، وهو مطلب ممكن التحقيق. ولكي تصبح مصر "نمراً" عربياً أو شرق أوسطي فليس هناك بداية إلا بالقضاء على الإرهاب لأن الاستثمار لا ينمو إلا في ظل الأمن والاستقرار، ولعل ذلك هو الدافع الحقيقي الذي يحرك الإرهاب. فالجهات التي تموله وتسلحه وتخطط عملياته ليس لها هدف إلا أن تجعل الشعب المصري يعيش في حالة استنفار وتوتر بحيث يفقد الشعور بالأمان، وينشغل عن المشروعات الطموحة التي يقيمها، وتختفي مصر من خريطة السياحة والاستثمار العالمي.. وهذه الأهداف الخبيثة لا يمكن أن تتحقق في ظل يقظة المصريين وحرصهم على مستقبل بلدهم.


وقضية التنمية هي قضية المستقبل كله بالنسبة لمصر، بمفهومها الشامل: التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، لذلك فإن قضية تطوير التعليم وتغيير أهدافه وأساليبه تتقدم على غيرها باعتبارها الأساس الضروري لمحاربة الإرهاب، فإذا أعيد بناء المؤسسة التعليمية على أسس جديدة، فإن نوعية الشباب الجديد والعقول الواعية المتفتحة التي يمكن أن تصوغها المدرسة الجديدة، ستكون هي درع الوقاية من مخاطر الإرهاب بشقيه: السلوك الإجرامي، والفكر الفاسد والمغشوش.


وما نحتاجه في هذه المرحلة هو أن ندرك أنه ليس المهم فقط أن نعرف وندرس ونحدد المشاكل ونضع لها الحلول السليمة، فالأهم من ذلك ألا نتوه في زحام المشاكل، وألا نفقد القدرة على الرؤية الصحيحة، وألا نفقد الاتجاه الصحيح.. وألا نضع المشاكل كلها على درجة متساوية من الأهمية.. ما نحتاج هو أن نعرف بالضبط ماذا نريد.. ومن أين نبدأ وهذا هو ما أراد أن ينبهنا إليه الرئيس مبارك صبيحة يوم الانتخاب، ليكون ضوءاً كشافاً على الطريق الصحيح..ولابد من إعادة قراءة فكر الرئيس مبارك في ضوء هذه الاعتبارات.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف