ميثـــاق شــرف الانتخابـــات

لا شك أن الانتخابات العامة فرصة لكل القوى والتيارات السياسية لكي تظهر، وتنافس، وتستخدم كل ما في يدها من أسلحة للتأثير على الرأي العام، والحصول على أصوات الناخبين، وكل هذا أمر مشروع في ظل الممارسة الديمقراطية والتعددية السياسية، ولكن مصلحة الوطن من نا حية، ودرجة النضج السياسي التي وصلنا إليها، تفرضان علينا الالتزام بميثاق شرف أخلاقي لا نحيد عنه في المعركة الانتخابية.. ونقيد سلوكنا به: مرشحين وناخبين.


أقول ذلك بعد أن بدأت حرارة المعركة الانتخابية، وبدأ بعض المرشحين في استخدام نفس الأساليب القديمة من أساليب الدعاية السوداء القائمة على إلصاق الاتهامات بالباطل بالمنافسين، والافتراء على الحقائق، واللجوء إلى الكذب والخداع، والمناورة التي تخرج عن الحدود المعقولة لتدخل في إطار المؤامرة. وبعض المرشحين تصور أن المعركة الانتخابية ليست معركة سياسية أساسها التنافس في تقديم الفكر والبرامج والسياسات والاستعداد للخدمة العامة، ورأى أنها معركة بالمعنى الحرفي، فاستباح فيها الاستعانة بالأنصار للاعتداء على منافسيهم، وإثارة حفيظة المخالفين له. مما ينذر بعاقبة  وخيمة سوف تبقى حتى بعد الانتخابات نتيجة تعمق الضغائن والعدوات، مما لا يليق بمن يتنافسون على الخدمة الوطنية.


من الظواهر السلبية أيضاً أن ترضى بعض صحف المعارضة لنفسها بأن تتحول إلى منشورات مليئة بالشتائم والإهانات والألفاظ الهابطة، وبالموضوعات التي تسعى إلى إيجاد مشاعر العداء والكراهية للنظام السياسي كله، وليس للحكومة أو لحزبها فقط، دون أن تفرق بين "المعارضة" والعداء" فليس كل من يعارض عدواً بالضرورة، بل أن المفترض أن المعارضة هي منهج مختلف عن منهج العمل القائم، وفكر مختلف، وأسلوب مختلف في العمل العام، واختلاف الناس ليس سبباً كافياً لإثارة المشاعر العدائية أو للتحريض على ارتكاب الجرائم.


ويلفت النظر أن مجموعة من المثقفين أخذهم الحماس، وانساقوا وراء التهمة التي أطلقتها بعض أحزاب المعارضة بغير سند عن تزوير الانتخابات، وهذا أمر يتكرر في كل انتخابات، لكن مجموعة المثقفين المتحمسين نظموا أنفسهم في شكل لجنة لمراقبة الانتخابات، وقالوا أنهم رأوا أن لجنة دولية راقبت نزاهة الانتخابات في بعض الدول المتخلفة مثل موزمبيق، فتصوروا أنهم أحق بهذا العمل من غيرهم، وهم بالقطع يعلمون أن لجان مراقبة الانتخابات ليست من أعمال الهواة، ولا تهتم بالتطوع، ولا بأن يندب نفسه من يشاء ليكون مراقباً ويعد تقارير، كما أن هذه اللجان لا تشكل إلا في الدول حديثة العهد بالديمقراطية وبالانتخابات وتحتاج إلى شهادة دولية على أنها أصبحت ديمقراطية وأن الانتخابات فيها كانت نزيهة، ولا شك أن المثقفين الذين اختاروا أنفسهم لهذه المهمة لا يقبلون فكرة أن مصر يمكن أن تكون بين هذه الدول التي تجري فيها الانتخابات لأول مرة بغير سوابق أو خبرة. فهم أعلم الناس بأن الديمقراطية في مصر لها جذور وتاريخ، وأن الشعب المصري بتاريخه الحضاري، وحسه السياسي، وإرادته الحرة لا يمكن تصنيفه مع الشعوب التي تبدأ خطوتها الأولى في الديمقراطية، ولا أظن أبداً أن هؤلاء المثقفين أرادوا أن يسيئوا إلى مصر كل هذه الإساءة، وإن كانت النوايا الحسنة في بعض الأحيان تؤدي إلى نتائج أكثر ضرراً من النوايا السيئة.. ولنا أن نفكر فيما يمكن أن يفعله المتربصون بمصر باستغلال وجود هذه اللجنة ليخرج بها عن إطارها النبيل المقصود، ويصور من خلالها أوضاع مصر في أسوأ صورة يتمناها أعداؤها.


مثل هذه القضايا التي أثيرت في الانتخابات الحالية تطرح أهمية التوصل إلى ميثاق شرف أخلاقي يلتزم به الجميع. يلتزم المرشحون كما تلتزم الأحزاب بأن تكون المنافسة الانتخابية شريفة، ولا تستخدم فيها أساليب غير أخلاقية من أي نوع، ولا تمتد إلى الإضرار بالصالح العام للوطن، ولا تقدم ذريعة لتيار الإرهاب المتربص الذي ينتظر أية بادرة يمكن استغلالها لينفذ من خلالها و ينفذ مخططاته الإجرامية. وفي هذا الميثاق يلتزم الناخبون بألا يجعلوا العصبية والقبلية هي معيار الاختيار، ويجعلوا صلاحية المرشح للعمل النيابي هي المعيار. بما في ذلك تاريخ المرشح، ومدى اكتمال نضجه السياسي، ومقدرته على القيام بالوظيفة الأساسية وهي التشريع، لأن عضوية مجلس الشعب ليست فقط لتقديم خدمات لدائرة أ و لأهلها ولكن لما هو أهم. فمجلس الشعب هو أعلى سلطة للتشريع والرقابة الدستورية في البلاد، وما لم يكن عضو مجلس الشعب مؤهلاً لمناقشة التشريعات فلن نستطيع الوصول إلى القوانين الأفضل. وستظل القوانين مليئة بالثغرات والعيوب التشريعية. وإذا كان لدى عضو مجلس الشعب القدرة والصلاحية لتوجيه الحكومة ومراقبة أعمالها فلن تكون لدينا محاسبة سياسية ودستورية للسلطة التنفيذية على المستوى المطلوب، وكل ذلك يفرض على الناخب مسئولية كبيرة أمام الله والوطن: أن يحسن الاختيار، ويدقق، ويختار الرجل المناسب في المكان المناسب، ولا يلتفت للعوامل الشخصية في الاختيار ويجعل الأولوية للعوامل الموضوعية.


إن مجلس الشعب القادم هو الذي سيشارك في صياغة مستقبل مصر وإعدادها للقرن القادم. واختيار هذا المجلس في يدنا نحن، وقد وصلنا إلى درجة من النضج تجعلنا قادرين على القيام بمسئولية الاختيار.. لأننا نحن وأبناءنا سندفع الثمن إن أخطأنا الاختيار. وهذه الحقيقة من المسلمات التي لا تحتاج إلى تأكيد أو إلى ميثاق أخلاقي.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف