طه حسين وأدباء عصره (1 - 2)

كانت الحياة العقلية فى مصر فى أوائل القرن العشرين تعيش فى أجواء نهضة وبحث عن التجديد، لذلك نقول إن العصر الذى عاش فيه طه حسين كان عصر ازدهار الشعر والفكر والأدب فى مصر وفى الدول العربية، فقد تألق فى عالم الشعر أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وخليل مطران وأحمد محرم وعلى الجارم، ثم جاء العقاد، وأحمد رامى ومحمد زكى أبو شادى وإبراهيم ناجى وعلى محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وعبد الرحمن صدقى وغيرهم يضيق المقام بحصرهم، وكانوا يمثلون مختلف مدارس الشعر.
وقد نبهنا فتحى رضوان فى كتابه المرجعى (عصر ورجال) إلى أن مصر لم تشهد قبل هذا العهد مثل هذا العدد الكبير من الشعراء، كما نبهنا إلى أن الشعر كان فى البداية يخاطب الجماهير فى نضالها ضد الاحتلال ولذلك كان أقرب إلى المقال السياسى أو الخطبة أو النشيد، ثم تحول بعد ذلك فأصبح بضاعة يتكسب منها صاحبها مالا أو منصبا أو جاها.
وفى هذا العصر اجتمع عدد كبير من الكُتاب الكبار المبدعين كما لم يحدث فى أى عصر، فقد اتسعت ساحة الأدب لعشرات من النجوم كان منهم مصطفى لطفى المنفلوطى وعباس محمود العقاد والدكتور محمد حسين هيكل والشيخ عبدالعزيز البشرى ومصطفى صادق الرافعى وأحمد حسن الزيات وأحمد أمين والدكتور زكى مبارك والدكتور محمد مندور إلى جانب محمود تيمور وتوفيق الحكيم ومحمود طاهر لاشين ويحيى حقى والدكتور حسين فوزى.
وبفضل هؤلاء ازدهرت الحياة الثقافية بإنتاجهم المتدفق من القصص والمسرحيات والدراسات الأدبية والنقد والترجمة عن الآداب العالمية، وإلى جانب هؤلاء العمالقة كان هناك تيار ثقافى يعبر عن الأدب الشعبى شديد الخصوبة والتألق وفيه حسن شفيق المصرى ومحمد الهلباوى.
كان عصرا مليئا بالقامات العالية فى كل مجال يذكر منهم فتحى رضوان فى الصحافة داود بركات باشا وعبد القادر حمزة باشا وأنطوان الجميل باشا وأمين الرافعى بك ومعهم كوكبة من المحامين والمؤرخين وأساتذة الجامعات الكبار يساهمون فى الحياة الأدبية بجهد غير قليل فى مقدمتهم عبد الرحمن الرافعى والدكتور محمد صبرى السوربونى والدكتور محمد كامل حسين والشيخ أمين الخولى وعبد الوهاب عزام باشا وكان هناك صحفيون جددوا أسلوب الكتابة، منهم فكرى أباظة والدكتور سعيد عبده وجورجى زيدان وبعدهم محمد التابعى وتلاميذه.
بين هؤلاء جميعا كان طه حسين قد صعد إلى مكانة استحق معها أن يلقب بـ (عميد الأدب العربى) وكانت عبقريته متعددة الجوانب، فقد نظم الشعر وإن لم يتفوق فيه مثل شوقى وحافظ مثلا، وكتب القصة القصيرة والرواية وكان أحد المؤسسين الذين فتحوا المجال أمام أجيال جديدة وصلوا بالقصة العربية إلى العالمية. وكتب الدراسات الأدبية والتاريخية، كما كتب فى النقد الأدبى والسياسى والاجتماعى، وكتب كثيرا فى التاريخ حتى أن بعض الباحثين يعتبرونه مؤرخا ملتزما بمنهج البحث العلمى الحديث.
***
ولم يكن طه حسين منعزلا كما لم يكن سلبيا أو مجاملا، ولكنه كان يخوض المعارك الأدبية والفكرية ويوجه سهامه الحادة حتى إلى أقرب أصدقائه كما فعل مثلا بتوجيه النقد إلى مؤلفات الدكتور هيكل وهو صاحب الفضل فى إفساح المجال له مبكرا فى صحيفته «الجريدة» وكأن طه حسين كان يؤمن بالمبدأ الأخلاقى «أحب هيكل، ولكنى أحب الحق أكثر» وفعل ذلك أيضًا عندما نقد العقاد والمازنى.
وكان قاسيا فى نقده - بل هجومه على مصطفى لطفى المنفلوطى صاحب أشهر كتابات زمانه، خاصة كتاب «النظرات» وكتاب «العبرات» ورواية «ماجدولين» وكان طه حسين فى شبابه مندفعا فى النقد حتى أنه قال إنه فى هذه الفترة كان يكتب مقالات فيها «شتيمة» وطول لسان (!) وظل يكتب مقالات متتالية فى تشويه ما يكتبه المنفلوطى، وشجعه على ذلك الشيخ عبد العزيز جاويش الذى كان ينشر هذه المقالات فى جريدته وكانت تجذب القراءوتزيد توزيع الصحيفة.. كتب طه حسين أن المنفلوطى (وهو شيخ أزهرى - يخطئ فى اللغة، ويضع الألفاظ فى غير مواضعها ويصطنع ألفاظا لم ترد فى المعاجم مثل لسان العرب والقاموس المحيط، ولكنه بعد ذلك بسنوات اعترف بأنه يشعر بالندم، بل بالخجل، كلما جاء ذكر هذه المقالات، وكتب يصفها بأنها نقد سخيف أقرب إلى طول اللسان وشىء من الشتم ليس بينه وبين النقد صلة، وكتب فى «الأيام» إنه كلما تذكر المقال السخيف الذى أعجب به عبد العزيز جاويش وقرأه للحاضرين فى مكتبه بصوت عال.. كلما تذكر هذه الساعة طأطأ رأسه وسأل الله أن يتيح له التكفير عن ذنبه العظيم، ولم يكن د. محمد حسين هيكل راضيا عن هذه المقالات، ولكنه لم يمنع نشرها لأنه يؤمن بحرية الرأى ويعطى للمنفلوطى حق الرد.
***
وكان مصطفى صادق الرافعى علما من أعلام الأدب التقليدى، صاحب العبارات الفخمة الرنانة، وصاحب المقالات التى جمعها فى كتابه المشهور بعنوان «السفود» أى أنه صاحب «شواية» يشوى عليها الشخصيات التى يكتب عنها تعبيرا عن شدة وعنف النقد الذى يوجهه إليهم. وله كتب كثيرة منها «وحى القلم» ثلاثة أجزاء تضم مجموعة من مقالاته، وكتابه الشهير «على السفود» وكان مشهورا فى تصرفاته وكتاباته بأنه «محافظ» إلى درجة التزمت، وبرر ذلك بقوله:(يخيل إلىّ دائما أنى رسول لغوى بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا مثل الجيش تحت السلاح) وله كتاب «تاريخ آداب العرب» ثلاثة أجزاء تناول فيها أصل اللغات وشرح الاشتقاق والمجاز والإبدال والقلب والنحت والمترادف، كما تناول العامية وتاريخ الرواية، وفى الجزء الثانى خصصه لبيان إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، والجزء الثالث عن تاريخ الشعر العربى ومذاهبه والمعلقات وأصحابها والأدب الأندلسى، وله كتاب «تحت راية القرآن» خصصه للرد على طه حسين والهجوم عليه وعلى كتابه «الشعر الجاهلى» وصدر سنة 1926 ذكر فيه أن كتاب طه حسين فيه مغالطات، لأنه تابع ما كتبه المستشرقون وبخاصة المستشرق «مارجليوس» الذى سبق طه حسين بالقول بأن الشعر الجاهلى ليس جاهليا وأنه بلغته ينتمى إلى عصر الإسلام وأنه متأثر بلغة القرآن، وزاد مصطفى صادق الرافعى على ذلك بأن اتهم طه حسين بأنه طعن فى قداسة النص القرآنى، والحقيقة أن طه حسين لم يطعن فى نصوص القرآن - وهو الذى كتب كثيرا عن عظمة الدين الإسلامى وقداسة القرآن ومعجزته البيانية - ولكنه قال إن القرآن - والتوراة والإنجيل - ليست كتبا للعلوم أو للتاريخ بالمعنى الدقيق، ولكنها كتب دعوة وهداية إلى الله، والمؤمن يؤمن بكل ما فيها، دون تعارض مع استخدام المنهج العلمى فى دراسة العلوم والتاريخ، وكان موقف طه حسين واضحا وهو عدم الخلط بين علوم الدنيا المتغيرة ومقدسات الدين الثابتة التى لا تتغير وأيضًا عدم الخلط بين السياسة والدين، لكى يبقى الدين فى مكانته المقدسة وتبقى مبادئه من الثوابت التى لا تخضع للشك أو الجدل، وإنما تخضع للتسليم واليقين وصدق الإيمان.
والغريب أن مصطفى صادق الرافعى كان يقدر مكانة طه حسين فى الفكر والأدب، ولكنه تأثر - فيما يبدو - بالحملة التى قادها خصوم طه حسين فى السياسة وبعض رجال الدين المنضمين إلى أحزاب بينها وبين توجهات طه حسين السياسية خصومة معلنة.. ولذلك نرى الرافعى يكتب مقالا فى «كوكب الشرق» فى 10 يونيو 1926 - عام الهجوم على طه حسين والضغط لتشريده من وظيفته - قال فيه:(إن طه حسين عالم فاضل تراه من أحسن أدبائنا إذا وقف عند الحفظ والمراجعة، ولكنك تراه من أسخف الأدباء إذا حاول التجديد والإبداع، وأضعفهم إلى تعاطى ما ليس فى طبعه مما يحتاج إلى الطبيعة الشعرية والذهن الحاد والرأى والاستنباط).. وقال أيضًا إن طه حسين ليس له أن يتصدى لنقد الشعر لأنه ليس شاعرا مجيدا، وناقد الشعر يجب عليه أولا أن يجيد كتابة الشعر.
***
وهكذا كان طه حسين فى كل مراحل حياته مقاتلا.. يطعن.. ويتلقى الطعنات! والحقيقة أن بين الرجلين ثأرا قديما، فقد كتب طه حسين نقدا لاذعا لكتاب الرافعى (تاريخ الأدب العربى) وقال إنه قرأه مرتين ولم يفهمه، وكتب مقالا فى نقد كتاب (حديث القمر) للرافعى، وحين امتدح حافظ إبراهيم هذا الكتاب هاجمه طه حسين وقال إن حافظ إبراهيم فى الحقيقة كتب هجاء للكتاب فى صيغة المدح، وهاجم طه حسين الرافعى حين أصدر كتابه «رسائل الأحزان» قال فيه إن الرافعى ينحت كتبه من الصخر ويشق على نفسه فى الكتابة والتأليف وكل كلمة يلدها ولادة متعثرة، وأخيرًا كتب مصطفى صادق الرافعى يقول: إن طه حسين هو فى أشياء كثيرة حقيق بالإعجاب وهو فى غيرها حقيق باللعنة، وكان طه حسن يؤمن بأن الخلاف فى الرأى لا يفسد الود ولم يكن فى ذلك وحده، وإنما كان أدباء هذا العصر يؤمنون بذلك.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف