حمايـــة الديمقراطية

تختلف الانتخابات هذه المرة عن الانتخابات التي سبقتها، فهي تعكس بالضرورة التغيرات التي حدثت في بنية المجتمع المصري خلال السنوات الماضية، وهي تغيرات واسعة وجذرية، سواء في التحول من التنظيم السياسي إلى التعددية السياسية بمفاهيم متقدمة نسبياً، ومن سيطرة الدولة الكاملة والشاملة على النشاط الاقتصادي، إلى الانتقال في مراحل متتالية إلى اقتصاد السوق، دون التخلي عن الدور القيادي والمسئول للدولة، ومن مرحلة الرأي الواحد إلى مرحلة تنوع الآراء، وتعددها، وصراعها الحر إلى أن تتبلور وتساعد على تكوين رأي عام مستنير، يساهم ويؤثر في عملية صنع القرار.


من الطبيعي أن تختلف الانتخابات هذه المرة لأن مصر الآن ليست هي مصر كما كانت منذ خمس سنوات.. ففي كل عام تتقدم إلى الأمام، وتزداد الممارسة الديمقراطية فيها رسوخاً، وإن كانت هناك مشاكل لا يمكن تجاهلها، المشكلة الأولى هي أن بعض الأحزاب مازالت هشة في تكوينها، ليست لديها كوادر حزبية بالمعنى الصحيح، بل وبعضها ليست لها قاعدة شعبية، كبيرة أو صغيرة، يمكن أن تساندها، وليس أمامها إلا أن تعتمد على العناصر التقليدية في ترجيح المرشحين وهي شخصية المرشح وانتماءاته العائلية والقبلية، ويساعد على ذلك أن الانتخابات فردية، وأن الانتماء أو الولاء الحزبي ليس من القوة بحيث يكون هو العنصر الوحيد الحاكم بالنسبة لاختيارات الناخبين.


والمشكلة الثانية هي أن هذه الانتخابات تجري في وجود موجة عنف غوغائية وإرهاب منظم في شكل عصابات تهدد أمن واستقرار المجتمع، وبعد أن تكشفت خطورة هذا الإرهاب على الوطن وعلى المواطنين، فقد أصبحت هذه الهمجية مرفوضة بالإجماع، ولا تجد تعاطفاً من الشارع المصري، بل أن الرفض يمتد الآن من سلوك العنف إلى فكر العنف المراوغ، الذي يحاول أن يتخفى وراء مبادئ معتدلة ثم يدس في ثناياها مبررات وجود الإرهاب بشكل غير مباشر، ويحاول التسلل إلى أفكار وعقول الشباب بأساليب ماكرة، من خلال تشويه صورة المجتمع القائم، وغرس روح الكراهية له، وتشجيع مشاعر المقاومة والرفض، وتنمية الإحساس بأن هناك مجموعات من المسلمين الأنقياء الأطهار، هم وحدهم المعبرون عن روح الإسلام أو المدافعون عن الشريعة، مع أن كل المسلمين في مصر يمثلون روح الإسلام في نقائها ومدافعين عن الشريعة، ليس اليوم فقط، بل ومنذ مئات السنين، دون أن يجدوا في أنفسهم يوماً حاجة إلى رفع السلاح، أو إراقة الدماء.


جماهير الشعب المصري على يقين تام بأن لعبة الإتجار بالإسلام لم تعد مجدية، وأن "الأبرار" الذين يظهرون في ثياب المدافعين عن الشريعة ويخفون أشد أنواع القهر والتسلط، تنكشف حقيقتهم في قضايا عديدة منذ عشرات السنين، أعضاء في شبكات خفية ومجهولة لنا حتى الآن، تدير معسكرات تدريب، وتخطط عمليات قتل وتدمير، وتعمل على أن تفسد في أرض المسلمين، وتمتد إلى خارجها لكي تشوه صورة الإسلام في العالم كله.. وليس هناك من له مصلحة في ضرب الإسلام إلا أعداؤه، وهم من القوة والذكاء بحيث يدركون أن ضرب الإسلام لن يكون مؤثراً إلا إذا حدث من داخله، وبشعاراته ومبادئه، وبأيدي طائفة من أبنائه، وليس ذلك غريباً، وفي القرآن الكريم تحذيرات عديدة من المنافقين، الذين يقابلون المؤمنين بوجه، ويتعاملون مع أوليائهم من أعداء الإسلام بالوجه الآخر الحقيقي، وكان ذلك يحدث في أنقى عصور الإسلام، والوحي يتنزل والرسول قائم يرى ويسمع ويبلغ رسالة ربه، ومنهم الذين زايدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته.


الآن يدرك كل المصريين أن الإرهاب هو عدوهم الأول، وأنه عدو خطير، لأن هناك مساحة مشتركة بيننا وبين أنصاره، الكل يتلو آيات الله، ويستشهد بأحاديث رسوله، ويهتز انفعالاً وغيرة على ما آلت إليه أحوال المسلمين، والفارق هو أن الإرهاب يستخدم كل ذلك لتجنيد الشباب الباحث في الإيمان عن الخلاص وتسميم عقولهم، وتحويلهم من طاقة بناء وإصلاح إلى قوة تدمير وقتل، وآلة خراب.


القضية الأساسية أمام المصريين الآن من خلال الممارسة الديمقراطية هي حماية الإسلام النقي ا لمعتدل من الذين يرتدون مسوح الإسلام ويريدون به وبأهله الشر والهزيمة. وإذا كان التوجه العام يتطلع إلى التغيير وتجديد الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، فإن هذا التغيير أو التجديد لا يمكن أن يكون عودة بالمجتمع إلى الهمجية والغوغائية، وقلب الحقائق، وإفساد العقول بتزيين صورة للحياة الرافضة للمنطق أو لقوانين الحياة والتطور، أو الداعية إلى الانعزال والرجوع إلى حياة الكهوف، على أنها هي نداء رب العالمين.


حتى الذين يظهرون في ثوب عصري، ويتحدثون بلغة عصرية، ليدسوا أفكاراً سلبية، أو ليروجوا لسيادة فكر أجنبي، أو ليبثوا فينا الشعور بالدونية ليخلصوا بعد ذلك دون أن يقولوا صراحة إلى صحة مواقف أعدائنا، هؤلاء أيضاً أصبحوا مكشوفين، بعد أن كانوا يحسبون أنهم أكثر دهاء وذكاء من كل الآخرين. ولم يعد مقبولاً من الرأي العام المصري إلا مواقف الاعتدال في الظاهر والباطن، وفكر الوسط الفاضل سراً وعلناً، واتجاه التقدم ورفض الجمود والجنوح، ومنهج العدل الاجتماعي دون أن يكون في ذلك قضاء على فئة لصالح فئة أخرى.. هذا التوازن بين المصالح لا يتحقق إلا في ظل سيادة الفكر المعتدل، ولذلك نقول أن التطور الديمقراطي في مصر سوف يستمر في مسيرته – دون انحراف – ليحقق مزيداً من التقدم في اتجاه الوسط ولا شك أن أكبر تهديد للديمقراطية في مصر يتمثل الآن في الإرهاب جميع صوره المادية والمعنوية والثقافية، أما ما يقلل من التشكيك مقدماً في نزاهة الانتخابات أو عدم حياد الحكومة، فهو مصادرة على مستقبل لم يأت بعد، واستباق للأحداث ليس له ما يبرره، فضلاً عن أن هذه الحملة المبكرة ليست إلا مناورة للضغط على الرأي العام لكي يتخذ موقف المعارضة، وهي لا تجدي بالطبع، لأن الجماهير ليست من السذاجة بحيث تقبل أن تنخدع بالتضليل، وتجري وراء الوهم، وتبيع إنجازات حققتها بتضحيات كبيرة وبعمل شاق طوال السنوات الماضية، وتوشك أن تؤتي ثمارها.


ومن حقنا أن نطالب بمزيد من الديمقراطية، ونعمل من أجل ذلك، ولكن واجبنا أن ندرك أن ما حققناه في هذا الميدان ليس بالشيء القليل، وا لمراقبون المحايدون يسجلون أن ما تحقق في مصر من ديمقراطية وحرية الرأي جدير بأن يكون موضع فخر المصريين لأن مصر الآن أكثر الدول الديمقراطية في المنطقة. ولابد من حماية هذه الديمقراطية من خطر الإرهاب وفكره.


والإرادة الشعبية في اتفاقها على مواصلة مسيرة التقدم سوف تحرص على ممارسة حقها الانتخابي لتعلو كلمتها.. وسوف تتصدى للمناورات. وتحمي الديمقراطية، وتأتي بمجلس شعب يليق بمصر وبالمصريين.. وسنرى.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف