معركـــة المحافظـــين

عندما أعلنت الأمم المتحدة أول تقرير لها عن التنمية البشرية في العالم في العام الماضي كانت المفاجأة أن ترتيب مصر 124 بين دول العالم، وجاء في أول تقرير تعده مصر أن ترتيبها 110، وظلت المفاجأة مع ذلك، لأن الجهود التي تبذل لتحسين نوعية الحياة في طول البلاد وعرضها ليست جهوداً قليلة، ولكن هذين التقريرين كشفا أن حجم مشكلة التخلف الاقتصادي والاجتماعي في مصر أكبر مما كنا نظن، وأن الجهود يجب أن تضاعف لأن الوقت ليس في صالحنا.


ويبدو أن هذين التقريرين قد أصبحا يمثلان تحدياً أمام وزير الإدارة المحلية والمحليات، فقد كانا موضوع حوار طويل اجتمع من أجله المحافظون في العام الماضي في الإسكندرية، ثم عادوا للاجتماع هذا العام في بورسعيد لمتابعة ما تم تنفيذه وما تحقق من تقدم، وفي هذا الملتقى الثاني تحول موقف المحافظين إلى شعور قوي بأنهم في معركة ولا بديل أمامهم إلا تحقيق النصر فيها، وتحول هذا الملتقى إلى ما يشبه غرفة العمليات.


وكانت البداية شهادة أدلى بها ممثل الأمم المتحدة المقيم في مصر، بأن مصر تتقدم في طريق التنمية البشرية الشاملة، وأن الأجهزة المسئولة فيها تتحرك إلى الأمام، وأن مصر أول دولة اهتمت بتقرير الأمم المتحدة، وأول دولة أعدت تقريراً عن التنمية البشرية فيها.


المشكلة الأولى هي الفروق الكبيرة في التنمية بين المحافظات. محافظات الوجه البحري أسعد حظاً من محافظات الوجه القبلي، من حيث فرص العمل، والمشروعات الجديدة، والمساكن، والإنارة، والمياه النظيفة، والمدارس، والعلاج... إلخ وهناك فروق أخرى في كل محافظات مصر بين القرية والمدينة، فالمدينة المصرية تعيش في قرن، والقرية في قرن آخر، ثم نشأت مشكلة ثالثة هي ظهور أحياء ريفية داخل المدن الكبرى، بأنماط المباني، وطبيعة السكان، وسلوك الناس فيها، والحرمان من الخدمات، وقد لا يصدق أحد أن هناك أحياء داخل القاهرة والإسكندرية ليس فيها الكهرباء والمياه وطرقاتها غير مرصوفة، ثم ظهرت مشكلة رابعة هي ظهور الأحياء العشوائية، وهكذا تراكمت المشاكل المتخلفة منذ عشرات السنين غابت فيها الرؤية الاجتماعية.


ومما يبعث على التفاؤل أن المحافظين جميعاً أصبحوا متفهمين لقضايا التنمية البشرية، وسادت بينهم درجة من وحدة الفكر تجعلهم قادرين على التفاهم والحديث معا"ً بلغة مشتركة، وهذا شيء جديد لمن كان يتابع سلوك وفكر المحافظين في السنوات الماضية، حيث كان لكل محافظ فكر وحده، ويشعر أنه يحكم جزيرة لا شأن له بما يجري خارج حدوده.


ويكفي مثل هذا اللقاء نجاحاً أن يتوصل إلى اتفاق على أن مهمة كل محافظ هي وضع "الإنسان" محوراً للتنمية، على أساس أن الإنسان هو صانع التنمية، وهو هدف التنمية، وبالتالي فليست التنمية اقتصادية فقط، ولكنها تنمية شاملة ومتعددة الجوانب، ويجب أن تسير كلها معاً وفي وقت واحد.. التنمية الاقتصادية مع التنمية الاجتماعية والثقافية مع تنمية البيئة. ووفقاً لذلك فإن المحافظين جميعاً أصبح عليهم علاج آثار الإهمال التاريخي الذي تراكم عبر سنوات طويلة.


وهناك ثلاث قضايا أثيرت في هذا الملتقى تستحق التأمل والمناقشة:


القضية الأولى أثارها محافظ الإسكندرية المستشار إسماعيل الجوسقي وهي قضية الانتماء، لأن فقدان الشعور بالانتماء يجعل الخطط مجرد أحلام لا يمكن تحقيقها، ولابد أن نتأمل مثال اليابان التي خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي في حالة دمار كامل، ولكن شعور المواطن الياباني بالانتماء لوطنه هو الذي جعله يتحمل التضحية اللازمة لإعادة البناء، ومادام الانتماء شعوراً لا يمكن أن يفرض على الإنسان من خارجه، فإن علينا أن نبحث كيف نجعل هذا الشعور يتولد داخل كل فرد، بحيث لا يفكر كل واحد في نفسه، ولكن يفكر من أجل بلده أيضاً، ويبحث عن مصلحته ومصالح الآخرين، ويحافظ على المال العام حرصه على ماله الخاص، ويشعر بالمسئولية عن نجاح العمل حرصه على كرامته الشخصية. ولتقريب الفكرة لماذا يحرص الفرد على نظافته الشخصية، ونظافة مسكنه ولا يشعر بمثل هذه المسئولية عن نظافة الحي، أو الشارع، مع أن الإسلام يضع المسئولية الاجتماعية في المقام الأول، ويدعو المسلمين إلى الحرص على النظافة في كل وقت وفي كل مكان..؟


وقضية الانتماء ولو أنها قضية تحتاج إلى تحليل خاص بها، ولكنها مرتبطة بشعور المواطن بالعدالة في المجتمع، وبأنه يحصل على حقه بقدر متساو مع الآخرين دون تفرقة أو وساطة أو محسوبية، وبالتالي يتولد في داخله شعور بأن هذا بلده بالفعل، وأن هذا البلد يعطيه ولا يظلمه، فينشأ الحب للوطن تلقائياً، ويتكون الانتماء دون حاجة إلى تلقين، لأن الانتماء لا يتولد بالإعلام أو بالغناء والأناشيد، ولكنه حصيلة تراكم خبرة المواطن في المجتمع، يخرج منها بأن هذا البلد بلده، له فيه حقوق تصل إليه دون مذلة، وله في شئونه صوت مسموع، وله قيمة يعترف بها الجميع، ومن محصلة ذلك يصبح المواطن جزءاً من الوطن، ويحدث التوحد تلقائياً دون حاجة إلى أناشيد كثيرة.


والقضية الثانية أثارها محافظ الفيوم الدكتور فاروق التلاوي وهي قضية السلوكيات السائدة في المجتمع المصري الآن، وهي في مجملها تتعارض مع السلوك اللازم للتنمية.. اتجاهاً إلى الإنفاق الاستهلاكي في وقت نحتاج فيه إلى الحشد من أجل إقامة مشروعات إنتاجية، وهذا يحتاج إلى زيادة السلوك الحريص على الادخار، والاستثمار، ولو بقروش.. ويتعارض أيضاً مع الاتجاه إلى زيادة المشاركة الشعبية في مشروعات التنمية. وقضية السلوكيات أوسع بكثير مما اعتدنا أن نطرحها.. لأن سلوك المواطن في المجال الاقتصادي، ليس إلا جانباً واحداً، هناك بجانبه سلوك هذا المواطن في المجال الاجتماعي وعلاقته بالمجتمع والوطن من ناحية وعلاقته بالمواطنين الذين يتعامل معهم من ناحية أخرى، ثم هناك كل مجالات السلوك الأخرى حتى السلوك الغذائي.. ويكفي أن نشير على أن السلوك الغذائي السائد أدى إلى انتشار أمراض معينة في بعض المحافظات، ومشاكل صحية في محافظات أخرى، مثل نقص اليود، أو نقص الحديد، أو نقص الزنك، لأننا لم نستطع التوصل إلى تعديل السلوك الغذائي السائد في هذه المحافظات، والخلاصة أن جهداً كبيراً لابد أن يبذل في هذا الاتجاه الذي قد يبدو للوهلة الأولى نوعاً من الترف، ولكنه في الحقيقة مفتاح التنمية والتقدم .


أما القضية الثالثة فهي قضية التماسك الاجتماعي في المجتمع المصري عامة، وفي المحافظات، وقد فجرها محافظ المنوفية المستشار عدلي حسين، وهي تحتاج إلى جهد كبير لتحويل التيار الفكري والنفسي الجديد نحو سيادة الفردية، والبحث عن حلول لمشاكل لا تخص إلا الفرد ذاته، إلى أن يصبح شعور الفرد بمشكلته مرتبطاً بالآخرين، وبالتالي يكون البحث عن حلول جماعية، ليكون شعار الفرد "أنا ومعي الآخرون" وليس "أنا وبعدي الطوفان". والتماسك الاجتماعي بهذه الصورة لازم لمرحلة التحول الكبرى التي يمر بها المجتمع المصري من الشمولية إلى التعددية السياسية ومن المركزية الاقتصادية إلى اقتصاد السوق، ومن مسئولية الدولة عن توفير كل احتياجات المواطن إلى المشاركة من جانب المواطن للعمل مع الدولة والتخلص من روح الاتكالية القديمة إلى روح المبادرة والمبادأة، ومن احتكار الفرص للقلة إلى إتاحة الفرص للجميع.. هذا التحول يحتاج إلى التماسك الاجتماعي وبغيره لن نصل إلى الاستقرار ولا المناخ اللازم لتنفيذ الخطة ولا نقدر على التعايش مع عصر ما بعد الجات..


مثل هذه القضايا التي تبدو فلسفية ونظرية مثل قضية الانتماء، وقضية السلوكيات، وقضية التماسك الاجتماعي، هي المدخل الذي لا غنى عنه لتغيير المجتمع وتجديده وإعادة البناء الحضاري لمصر.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف