قيمــة العسكــرية المصـــرية

كان انتصار السادس من أكتوبر عام 1973 هو المعبر بحق عن قيمة ومكانة القوات المسلحة المصرية، ففي هذه الحرب أتيح لأول مرة للعسكريين المحترفين أن يتولوا هم التخطيط للمعركة، ويختاروا القيادات على أساس الكفاءة وحدها، ويحددوا الأولويات وأساليب العمل، ولم تتدخل القيادة السياسية في تفاصيل العمل العسكري، وكان لها في التاريخ شجاعة اتخاذ القرار، وتهيئة الظروف الدولية والعربية وتعبئة الجبهة الداخلية وإعداد الدولة للحرب، ولم تكن هذه الحرب السياسية أقل ضراوة وأهمية من الحرب العسكرية.. ولكن الشيء الذي لا ينسى للرئيس الراحل أنور السادات هو أنه أعاد للعسكرية المصرية مكانتها في التاريخ .


ولأن العسكرية المصرية وريثة تقاليد وعبقرية حضارة عمرها سبعة آلاف سنة فقد كان سلوكها أثناء المعارك، وفي قمة الانتصار سلوكاً يتفق مع قيمتها، وتاريخها، فلم يحدث أبداً.


ولو في حالة فردية واحدة – أن قتل الجنود المصريون أسيراً إسرائيلياً، أو أساءوا معاملته، أو اتخذوا معه موقف التشفي والرغبة في تصفية حسابات قديمة، بل ولم لتظهر بين الجنود نغمة "دعونا نعاملهم بالمثل" ولكن كان الشعار في ضمير كل مصري: "دعونا نعاملهم بما يتفق مع حضارتنا ومع القيم الأخلاقية التي ظللنا حراساً لها آلاف السنين". ولذلك كانت معاملة الأسرى الإسرائيليين مثار دهشة الإسرائيليين أنفسهم، ويكفي شهادة عساف ياجوري الذي تم أسره أثناء القتال وبعد أن قتل بمدفع دبابته عدداً من المصريين، ومع ذلك فقد أحسن الجندي المصري الذي أسره معاملته منذ أول لحظة، ونقله إلى مقر قيادته دون أن يصيبه أي أذى. وذلك بشهادة عساف ياجوري نفسه، وفي الكتابات الإسرائيلية عن حرب أكتوبر شهادات الضباط والجنود الذين أسرهما لجيش المصري، وفيها يسجلون أنهم عوملوا معاملة كريمة ولم يكن يدور في خيالهم أن يحدث ذلك من أعدائهم التقليديين الذين أساءوا إليهم أبلغ إساءة في عدواني 1956 و1967 .وفي هذه الشهادات أن الجنود المصريين كانوا يقتسمون مع الأسرى الإسرائيليين طعامهم، وعاش هؤلاء الأسرى في ظل رعاية الجنود المصريين، وبرقابة الصليب الأحمر، دون إخفاء أي واحد منهم، ومع السماح لهم بتبادل الرسائل إلى ذويهم، وتلقي هدايا منهم، وكانت القوات المسلحة توزع على الأسرى الحلوى والمرطبات.


وكل ذلك طبيعي ولابد أن يصدر عن المصريين، لأنهم لا يمكن أن يكونوا مع أعدائهم غير ذلك.. فالمصريون ليسوا فقط أهل حضارة،ولكنهم أيضاً متمسكون بالقيم الأخلاقية والفضائل التي ترسخت فيهم عبر القرون فضلاً عن أن العسكرية المصرية لها تقاليدها الراسخة، المترسبة في داخل أعماق كل فرد منها، وهذه التقاليد ممتدة منذ الفراعنة، وفي الأدبيات الفرعونية، كما في النقوش التي تسجل أمجاد العسكرية المصرية قصص كثيرة عن احترام المصريين لحقوق الأسرى، لأنه ليس من الشجاعة، ولا هي بطولة، أن يتم الاعتداء على أسير لا حول له ولا قوة بعد تجريده من سلاحه.. روح الفروسية، ونبل الأخلاق، وتعاليم الديانات السماوية، وأخلاق المصريين.. كل ذلك يمنعهم من مجرد التفكير في إظهار بطولة لا يفخر بها إلا الجبناء.. بالاعتداء على جندي بلا سلاح.. مكتوف اليدين، خائر القوة من الجوع والعطش.. فهذه بطولة تدين صاحبها، وتدمغه، وتستوجب العقاب.


وهذا هو السبب في كل هذا الغضب الذي يملأ نفوس المصريين بعد ما تكشفت فضائح قتل الأسرى المصريين على أيدي قادة وضباط إسرائيليين، بلا أخلاق، ولا ضمائر، وبسلوك غير إنساني وغير متحضر.. وزاد الغضب بسبب محاولات إسرائيل للمراوغة بادعاءات مستفزة، مثل القول بأن هذه الجرائم سقطت بمضي أكثر من عشرين عاماً على ارتكابها، وأسوأ من ذلك ما قيل أخيراً من عذر للقادة الإسرائيليين أنهم يقودون جيشاً لم تكن له تقاليد عسكرية، ومع ما في هذا التبرير من اعتراف بأنه لم يكن جيشاً لأن الجيش لا يكون جيشاً بمجرد التنظيم والتسليح ولكنه يكون جيشاً حين تكون له قواعد وضوابط وقيم وتقاليد وقيم عسكرية محترمة، تعكس قيمة الدولة، وتبين إن كانت هذه دولة أصلاً، وأن كان هذا جيشاً أم لا.


وأسوأ من ذلك ما قيل في صحافة إسرائيل أيضاً لتبرير هذه الجرائم أن الجيش الإسرائيلي قام على نواة عدوانية هي عصابة شتيرن ونحن نعرف عصابة شتيرن وتاريخها وقادتها من مات منهم، ومن بقى على قيد الحياة، ونعرف أن بعض قادة إسرائيل يفاخرون بأمجاد شتيرن ويباهون بأنهم كان لهم شرف قيادة عملياتها، حتى أن إسحق شامير حين كان رئيساً للوزراء وأجرت معه الإذاعة الإسرائيلية مقابلة أذاعتها إذاعة صوت أمريكا بمناسبة مرور 51 عاماً على إنشاء عصابة شتيرن الإرهابية، قال أنه فخور بسجل هذه العصابة الحافل بالاغتيالات والتفجيرات والعمليات الإرهابية أثناء فترة الانتداب البريطاني.


وعصابة شتيرن هي التي قامت بتنفيذ مذبحة دير ياسين ليلة 8 إبريل عام 1948 وقتلت 254 رجلاً وامرأة وطفلاً من المدنيين الفلسطينيين أهل القرية، ولم تكتف بالقتل، ولكنها قامت بتقطيع أوصالهم لكي تنشر الرعب بين الفلسطينيين في كل مكان لكي يهربوا ويتركوا أرضهم وديارهم، وعصابة شتيرن هي التي قامت باغتيال اللورد كتشنر موين وزير الدولة البريطاني أثناء زيارته للقاهرة، وهي التي قتلت الكونت فولك برنادوت مبعوث الأمم المتحدة في فلسطين، وهي المسئولة عن مذبحة خان يونس عام 1956 وقتلت فيها 275 شهيداً من الفلسطينيين وأيضاً مذبحة كفر قاسم عام 1956 أيضاً وقتلت فيها 48 فلسطينياً، وحين تولى زعماء شتيرن القيادة في الدولة الإسرائيلية لم يجدوا صعوبة في تنفيذ مذبحة صابرا وشاتيلا في بيروت في سبتمبر 1982، ولم يجدوا ما يمنعهم من ممارسة السلطات الإسرائيلية لكل صور الإرهاب ضد الفلسطينيين ابتداء من إغلاق المدارس والجامعات لحرمان الفلسطينيين من التعليم، إلى طرد الفلسطينيين من العمل لحرمانهم من لقمة العيش، إلى سجنهم بغير بسبب لمجرد حرمانهم من الحياة على أرضهم، إلى تنفيذ مخطط لهدم بيوت الفلسطينيين وتهجيرهم بالقوة، إلى آخر سجل الإرهاب الكبير الذي يصعب حصره، والذي تمتلئ أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بآلاف التقارير الرسمية. والقرارات التي تسجل ألوان العدوان والإرهاب غير الملتزم بأخلاق أو قانون دولي.


الآن، وبعد انتصار أكتوبر منذ 22 عاماً تغير الحال، وأصبح العرب المنتصرون، بعد أن رفعوا رؤوسهم بفضل بسالة العسكرية المرية، تغير الحال. وأصبح المصريون والعرب مستعدين للسلام، وخطوا بالفعل خطوات جادة على هذا الطريق، وحسموا أمرهم على أن السلام خيار لا رجعة فيه.. تبقى مسألة مهمة .. هل يمكن إغفال الصفحة السوداء من الماضي، أو تجاهلها، أو الاكتفاء بإسداء النصيحة للمصريين بنسيانها.. وهل يخدم ذلك السلام الذي نريد له أن يدوم وأن يستمر إلى الأبد، وان يؤدي مع الوقت إلى بناء شرق أوسط جديد تعيش فيه إسرائيل بلا عداوات ولا كراهية ولا حساسيات.


أعتقد أن الأمر سيكون صعباً إذا لم تبادر إسرائيل إلى اتخاذ خطوات جادة تدلل بها على أن صفحة شتيرن قد انطوت وانتهت، وأن أحداً في إسرائيل لم يعد راغباً في الدفاع عنها، وكما تطلب إسرائيل من منظمات التحرير الفلسطينية أن تحذف من ميثاقها أية عبارات تشير إلى تدمير دولة إسرائيل أو تشير إلى عدوان، كذلك فإن من حقنا أن نطلب من إسرائيل أن تقدم ما يدل على حسن النوايا، بأن تتبرأ من أعمال الإرهاب والعدوان والجرائم التي ارتكبت ضد المصريين والفلسطينيين وغيرهم من العرب في فترة سابقة.


وقد يكون في إسرائيل من يتصور أن غضب المصريين بسبب جرائم قتل أسراهم بهذه الصورة الوحشية هو غضب مؤقت يمكن أن يزول مع الوقت. وقد يظهر فيهم فلاسفة يقولون لهم أن العرب سريعو الغضب سريعو النسيان، لكن مصلحة إسرائيل على المدى الطويل، إن كانت حريصة على بناء مستقبلها على أساس سليم، تقتضي أمراً آخر. أن تبدي الاهتمام والجدية، وأن تفتح الملفات، وتبدأ التحقيق، والمحاكمة لكيلا يفكر المصريون في المطالبة بإحالة الأمر إلى محكمة العدل الدولية أو إلى هيئات ومنظمات دولية لتحاكم المجرمين الذين قتلوا الأسرى، كما نحاكم الآن الصرب على جرائم الحرب التي ارتكبوها.. لأن منطق العدل يقضي بألا تمر جريمة بلا حساب ولا عقاب .


ويبقى لنا أن نفخر، ونرفع رؤوسنا، لأن جنودنا كانوا ومازالوا أبناء هذا الوطن العظيم القائم على الشرف والأخلاق والتقاليد الحضارية، وأن مواقفهم وانتصاراتهم في حرب أكتوبر كانت وستظل دائماً مصدر إعزاز وفخار بغير حدود، ويبقى لمصر أن قيمتها ليست فيما تقيمه من مبان ومصانع، ولكن مخزون القيمة الأكبر يكمن داخل كل إنسان من أبنائها، ويظهر معدن المصريين الحقيقي في الحروب، حيث يتحول البعض إلى وحوش، ويظل المصريون محتفظين بآدميتهم، وإنسانيتهم، وأخلاقهم، ومبادئ دياناتهم، وفي النيران وساحات القتل تظهر القيمة الحقيقية للعسكرية المصرية.. وهذا شيء ليس بالقليل.. ولا يتوافر إلا في قلة نادرة من الجيوش تكتب تاريخ انتصاراتها بشرف .


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف