التغيـيــر الذي نريــــده

تغيرت الدنيا في فترة قصيرة، ولم يعد عالم اليوم هو نفس العالم الذي كنا فيه منذ خمس سنوات فقط. تغيرت الخرائط السياسية. ومراكز القوة ومناطق الصراع، وتغيرت فلسفة الدول الكبرى والصغرى وقوانين الاقتصاد.. كل شيء تغير.. ولكن بعض العقول في مصر لم تتغير..


لم تتغير بعض عقول في قيادات المعارضة.. ومازالت تفكر بنفس الطريقة التي كانت تفكر بها في الثلاثينيات والأربعينيات.. نفس المؤامرات الساذجة.. والأساليب الفجة في استخدام لغة الشتائم.


وفي الحياة السياسية الرشيدة الخلاف السياسي ليس نوعاً من العداء والكراهية، ولكنه طريقة لتبادل الرأي من زوايا مختلفة من أجل هدف واحد يلتقي عليه الجميع هو الوصول إلى أفضل الحلول لمشاكل الناس والمجتمع.


المعارك السياسية الرشيدة ليست إلا حواراً بين أشقاء في مصير واحد، كل منهم يريد أن يتولى عجلة القيادة لا لمجرد إزاحة الآخر، ولكن لكي ينفذ برنامجاً جاهزاً عنده يرى أنه يحقق مصالح المجتمع أكثر. والمعارك السياسية تأخذ أحياناً – عند البعض – شكل "خناقات الحواري" وما يقال فيها لا يدخل في باب النقد السياسي ولكنه يمكن أن يصنف تحت مسمى خاص بنا ليس له مثيل في مكان آخر في العالم أقرب إلى "الردح السياسي".


ومن واجبنا أن نخشى على الحياة السياسية في مصر من ممارسات بعض قيادات المعارضة وكتابها.. هم حقيقة قلة.. وليس لهم تأثير كبير على الرأي العام.. ولا يجدون من يصدقهم.. ولكن مع ذلك فإن ما يفعلونه يلوث الحياة السياسية ويجعل المناخ السياسي غير صالح للتفكير السليم، وتبادل الرأي بموضوعية، والاختلاف حول مناهج العمل وليس تنفيثاً عن أحقاد على أشخاص..


وتزايد ظاهرة "تلويث الحياة السياسية" في هذه الأيام قرب الانتخابات، ورغبة بعض الأحزاب القزمية، أو الشكلية، أو الهلامية في أن تظهر على الساحة بأكبر من حجمها.. ولا يصادر أحد حق الأقزام في أن يتطلعوا، أو يحلموا بأن يكونوا عمالقة أو حتى أن يدعوا أنهم بالفعل عمالقة.. كما أن من حق الصغار أن يظنوا أنهم أكثر رشداً من الكبار.. وكم من طفل يتعثر في خطواته الأولى نرى إصراره على أن يلبس ملابس الكبار، ويضع قدميه في أحذيتهم، ويوقن بذلك أنه أصبح كبيراً بين الكبار ولا يقل عنهم.. ولا يعرف أنه ليس المهم أن يرتدي ملابس الكبار لكي يكون كبيراً.. المهم أن يكون هو كبيراً بالفعل.. بالحجم الذي تتفق هذه الملابس مع حجمه..


أي أن ادعاء أو توهم النضج شيء، والنضج الحقيقي شيء آخر.


ولا يحصل على المكانة أحد لمجرد أنه يريدها، ولكن لابد أن يستحقها، ويتناسب معها.


وبعض أحزاب المعارضة عندنا أقل من أن تكون منافسة في الانتخابات، ولكن الحكمة تقتضي إعطاءها فرصة واسعة جداً لكي تشارك، وتتعلم، وتخوض تجارب تحتاجها حتى تدرك طبيعة العمل السياسي الشعبي وتحمل هموم المجتمع كله وتفكر من أجله.. ويتفرع من هذا الحق مجموعة حقوق.. من حق أحزاب المعارضة أن تعارض.. ومن حقها أن تمارس النقد.. وبقوة.. ومن حقها أن تنزل إلى الشراع وتخاطب الجماهير وتحاول اكتساب أنصار لها.. ومن حقها أن تعرض فلسفتها وأفكارها وبرامجها أن كانت لديها فلسفة أو أفكار أو برامج، ولكن لماذا لا يتم كل ذلك في إ طار تبادل الاحترام، وتوجيه النقد إلى أعمال وليس إلى أشخاص، وضبط الرغبة في اختراع الاتهامات، وتأليف قصص عن انحراف الجميع، وتصور أن هذا جزء من لعبة السياسة، لأن لعبة السياسة يمكن أن تكون لعبة نظيفة، ويمكن أن تكون لعبة قذرة، ويتوقف ذلك على طبيعة المشاركين فيها.


وإذا كانت بعض الأحزاب الصغيرة تحرص على إ ثارة زوابع لم تجد صداها، ولم تؤثر في الشارع السياسي، مثل حملات الشتائم والإساءة الشخصية لقيادات أدت.. وتؤدي رسالتها بإخلاص.. ومثل اختراع وقائع لتصوير كل مشروع في البلد بأنه فاشل.. فإن العقل السياسي الرشيد لابد أن يبدأ بالتسليم بما هو ظاهر من إنجازات كبيرة وقرارات سياسية صائبة، والانطلاق بعد ذلك إلى محاولة تطويرها أو الإضافة عليها أو المطالبة بالمزيد، أو تقديم سياسات بديلة مدروسة يمكن أن تحقق نتائج أفضل.


جاءت الزوابع المبكرة بالغبار السياسي القديم الذي أثير في الانتخابات الماضية دون جديد.. نفس الكلام.. ونفس الأسلوب: المطالبة بضمانات لنزاهة الانتخابات، مع أن الضمان الأول هو أحزاب المعارضة ذاتها، أن توجد في اللجان، وتصحب الصناديق، وتبعث مندوبيها للجان فرز الأصوات وتشارك في كل مرحلة لكي يطمئن قلبها وقلوبنا إلى سلامة كل خطوة من خطوات الانتخابات.. وهل هناك دولة في العالم يخرج كل قضاتها لكي يتحولوا إلى رؤساء لجان فرعية في كل القرى والأحياء والكفور والنجوع، وهل في مصر ما يكفي من القضاة.. أم نستورد قضاة من الخارج لسد العجز أم أن تستمر الانتخابات شهراً أو يزيد إلى أن يطوف القضاة على كل شبر في مصر ويسجلوا أسماء أكثر من خمسة عشر مليون مواطن.. والقول بألا تشرف وزارة الداخلية على الانتخابات وأن يشرف عليها القضاة وحدهم معناه إنشاء وزارة داخلية جديدة ولكن تحت مسمى جديد وأن تكون الوزارة الجديدة في وزارة العدل لكي تعمل مرة كل خمس سنوات.. وإذا كان في الهند هيئة خاصة كبيرة للانتخابات فهذا يرجع لطبيعة مساحة الهند وعدد سكانها والصراعات الطائفية والدينية فيها.


ومع ذلك لا بأس من المطالبة بأي شيء.. بالمعقول وغير المعقول، بالممكن والمستحيل.. فمادمت على البر فإنك تستطيع أن تدعى أنك أعظم سباح في العالم.. وبعض قيادات الأحزاب لم تعد قادرة إلا على الكلام وهم بعيدون عن نهر الحقيقة.


لا أحد يطالب بمنع المعارضة من أن تثير الزوابع لتمهد للانتخابات وتبحث لنفسها عن مكان.. وكل ما نطالب به هو "العقل".. لأن أخطر ما في الحياة السياسية أن تشتط في الجموح فتحطم منطق العقل.. وتصبح نوعاً من الاختلال العقلي السياسي.. والله المنجي!

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف