قـــوة الــــرأي العــــام

نتحدث كثيراً عن "قاطرة التنمية في مصر" أو محور الارتكاز الذي تعتمد عليه عملية البناء الكبرى التي تمثلها خطط التنمية، والتي تعمل عاماً بعد عام على تحويل مصر من بلد متخلف إلى بلد متقدم، وتواجه شبكة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المعقدة التي نسجتها عصور سابقة.. ويمكن أن نحدد قاطرتين لا قاطرة واحدة للتنمية، ونقطتي ارتكاب يجب أن تكون لهما الأولوية في فكرنا وجهدنا لكي نضمن استمرار عملية البناء وتحقيق الحلم الكبير.. وأقصد بهما: قطاع البترول، وقطاع السياحة، وهما صناعتان اكتسبنا فيهما خبرة مشهوداً لنا بها دولياً وحققنا فيهما إنجازات ليست هينة، ومازال الطريق فيهما طويلاً، والجهد المطلوب لهما أكبر وأكبر.


وإذا بدأنا بقطاع البترول فإن ما يقدمه الآن ليس بالقليل.. يكفي أن نضع في اعتبارنا أن ما يقدمه للاستهلاك المحلي من البترول والغاز الطبيعي أصبح يزيد على عشرة مليارات جنيه.. وأن ما يصدر من البترول الخام يزيد على أربعة مليارات جنيه.. وأن البترول والغاز الطبيعي يمثلان الآن 92% من الطاقة في مصر..


والنجاح الذي تحقق في قطاع البترول كما أعلن ذلك الرئيس مبارك أكثر من مرة يمكن أن يكون نموذجاً لبقية القطاعات، فهذا القطاع بالذات يتعامل مع الشركات الأجنبية الكبرى المتعددة الجنسيات، ومع ذلك استطاع أن يصل إلى حل للمعادلة الصعبة، وهي تحقيق مصالح هذه الشركات المشروعة، والمحافظة في نفس الوقت على المصالح المصرية كاملة ابتداء من المحافظة على الاحتياطي الاستراتيجي وعدم الاستنزاف.. وانتهاء بالحصول على مزايا عند التعاقد، آخرها أن تكون المنشآت البترولية التي تقام بأموال الشركات الأجنبية مملوكة لمصر، وليس للشركات الأجنبية إلا حق الانتفاع، وبعد انتهاء العقد تؤول كل المنشآت للشركات المصرية التي أصبحت الآن غنية بالخبرات والكوادر والقدرات الفنية بحيث تستعين بها دول عديدة في العالم العربي، وفي آسيا وأفريقيا.


وهذا النجاح لم يأت مصادفة، ولكنه جاء نتيجة تخطيط وسياسات، وجهد لا يعرفه إلا من يزور حقول البترول في الصحاري ووسط المياه المصرية ويرى مجموعات المهندسين والفنيين المصريين وهم يبذلون العرق في ظروف عمل منهك بعيداً عن حياة المدن وعن أسرهم و بأجور ليست متميزة كثيراً، ولكن دافعهم الكبير هو إحساسهم أنهم في معركة وواجبهم أن يحققوا فيها النصر.. وهم نموذج لما يمكن أن تفعله الروح المعنوية العالية.. والطاقة الروحية التي تفجر في الشباب التحدي والرغبة في التضحية وتحمل الكثير من الصعاب.


وإذا كان الاحتياطي الاستراتيجي في مصر قد أصبح الآن يدعو إلى الطمأنينة وبعد أن كان في عام 1982 بالنسبة للغاز الطبيعي حوالي 6 تريليونات أصبح الآن 23 تريليون قدم مكعب.. وأصبح الاحتياطي من البترول ثلاثة مليارات ونصف مليار برميل.. فإن ذلك لم يتحقق من فراغ.. وهو يطمئن إلى أن البترول سيبقى مصدراً رئيساً للدخل القومي، وأن قدرتنا على البقاء في الأسواق العالمية خلال السنوات القادمة مضمونة بحسن إدارة مواردنا، وبقدرتنا على التعامل مع المتغيرات الدولية وبخاصة مع معدلات النمو الفائقة للنمور الآسيوية وتزايد المنافسة بين البترول والغاز من ناحية وبين مصادر الطاقة الجديدة من ناحية أخرى، وهذا يفرض علينا أن نعمل في اتجاهين: جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية قبل أن تجذبها التسهيلات والإغراءات في مواقع أخرى.. وهذا موضوع له جوانبه السياسية والاقتصادية.


وفي نفس الوقت لابد من أن يدخل رأس المال الخاص المصري بصورة أكبر للاستثمار في قطاع البترول وأمامه محاولات واسعة.. أن ينشئ شركات جديدة للتنقيب أو يشارك فيها مع شركات القطاع العام أو الشركات الأجنبية وأن يقيم مصانع للتكرير أو يشارك فيها.. وأن يتملك جانباً من المصانع القائمة المملوكة للقطاع العام في إطار يمكن التوصل إليه بما يحقق المصلحة العامة ومصلحة القطاع الخاص..


بذلك أصل إلى ما أريد أن أقوله، وهو أن قطاع البترول تزداد مسئولياته مع ازدياد نجاحه.. وأنه قد آن الأوان لكي يتوسع فيما يمكن أن نسميه.. "المسئولية الاجتماعية لقطاع البترول" ومادام هذا القطاع أكثر القطاعات الإنتاجية المصرية تقدماً في التعامل مع التكنولوجيا والعلوم الحديثة.. وأكثرها غنى بالكفاءات والكوادر الفنية والإدارية الناجحة.. وأكثرها قدرة على تكوين مجتمعات كاملة متكاملة ونموذجية في الصحاري تساعد على تنمية العمران حولها.. لابد أن يتقدم خطوة أخرى ليقوم بمسئوليته في التنمية الاجتماعية والثقافية في مصر كلها.


وكما نعرف فإن الشركات الكبرى في العالم لا تتوقف عند دورها الصناعي والاقتصادي، ولكنها تخصص جانباً من أموالها وجدها لتطوير الحياة الاجتماعية.. بالمساهمة في بناء المدارس والجامعات ومراكز البحث العلمي .. والمكتبات العامة.. وتمويل البعثات التعليمية في الخارج.. وتمويل مشروعات إقامة أندية للشباب.. وتمويل المؤسسات الثقافية.. ويكفي أن نعيد للذاكرة أن طلعت حرب الذي أنشأ بنك مصر كصرح مالي واقتصادي وأسس عشرات المصانع الكبرى أنشأ أيضاً وفي نفس الوقت المسرح القومي وأستوديو مصر لإنتاج الأفلام السينمائية الجيدة وغير ذلك من عشرات المؤسسات الثقافية التي أسهمت إسهاماً كبيراً في النهضة الحضارية في مصر الحديثة.


وللحق فإن قطاع البترول يقدم الآن مساهمات لها قيمة كبيرة في هذه المجالات في المحافظات والمدن والمناطق الصحراوية التي يمارس فيها نشاطه.. وأن هذه المساهمات متنوعة وتدل على وعي القائمين عليه بهذا الدور الاجتماعي ومساهماته تشمل إنشاء طرق وبناء مدارس ومراكز طبية.. هي مساهمات ليست قليلة وإن كانت تتم دون دعاية أو إعلان إلا أن ما أقصده هو ضرورة التوسع في هذا الاتجاه لكي يكون نموذجاً لبقية القطاعات الصناعية والإنتاجية الأخرى، في القطاعين العام والخاص على السواء ولكيلا تكون التنمية الاجتماعية والثقافية والبشرية عموماً مسئولية الحكومة وحدها، وتصبح مسئولية المجتمع كله، ومسئولية القطاعات الأقدر والأكبر بشكل أساسي.


وبذلك يتحقق اكتمال المعنى الذي أقصده وأنا أقول أن قطاع البترول يمكن أن يكون قاطرة التنمية في مصر.. التنمية بمعناها الشامل.. ليس التنمية الاقتصادية فقط.. ولكن التنمية المتكاملة التي تضع في اعتبارها النهوض بالإنسان المصري. في كل مكان وتحسين ظروف حياته وتأهيله للقرن الحادي والعشرين.


وإذا قلنا أن كل القطاعات مدعوة للقيام بهذا الدور.. فإن القطاعات الأكثر تقدماً ونضجاً ومقدرة لابد أن يكون نصيبها أكبر.. وهذا ما يجعل إضافة هذه المسئولية إلى قطاع البترول منطقية ونابعة من الثقة في قدراته وتفتح وعي قياداته.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف