خيــــارات المستقبـــــل

يلفت النظر عند تأمل سلوك الأحزاب ونشاطها في هذه الفترة وهي تمهد لإعداد نفسها للانتخابات القادمة أن الأحزاب الصغيرة اختارت لنفسها طريقاً سهلاً لمخاطبة الجماهير، هو التركيز على المشاكل والسلبيات، وهي تعلم أن مصر تواجه مشاكل كثيرة ومعقدة موروثة منذ عصور سابقة، ومن المفيد، بل من الضروري، أن نواجه هذه المشاكل، لكن هذه الأحزاب تكتفي بالبكاء وتوجيه الاتهامات وإثارة الشكوك، ولا تحاول تقديم حلول أو اجتهادات مدروسة لحلها، بل ولا تشغل نفسها بالتفكير في مستقبل مصر.. ومع أن الاجتهادات في رسم صورة المستقبل، والبرامج المحققة لذلك، هي التي يجب أن تكون محور التنافس في هذه الانتخابات، ولا شيء غير ذلك.


والأحزاب القائمة في مصر الآن تنطلق رؤاها السياسية من ثلاثة مواقف أساسية – الموقف الأول هو الدعوة إلى السير إلى الأمام، والموقف الثاني هو اختيار الجمود وتوهم السير، والموقف الثالث هو السير إلى الخلف.


وفي تحليل جيد لهذه الخيارات يشير الدكتور إبراهيم شحاتة في كتابه الجديد "وصيتي لبلادي" وأخطر هذه الخيارات هو موقف الدعوة إلى الارتداد الفكري، أو التطلع إلى العيش في القرن الحادي والعشرين وفق الممارسات والأفكار التي كانت صالحة لعصور سابقة.. وهذا الخيار يمثله تيار يدعى أن لديه الحل لكل مشاكل المجتمع جملة واحدة دون أن يقدم تحليلاً وافياً لكل مشكلة ولكيفية حلها.. أو أنه يقدم حلولاً سطحية في عبارات عامة جوفاء ليس فيها تحليل أو دراسة..


موقف الارتداد الفكري هو الخطر الأكبر على البلاد والعباد، لأنه يخاطب في الناس الحنين إلى الماضي الجميل الذي لن يعود أبداً.. لأن العالم كله تغير.. وما كان ممكناً منذ قرون لم يعد ممكناً الآن.. ولكل زمان تفكيره ورجاله، والتاريخ لا يسير في شكل دائرة يكرر فيها الأحداث والحقب، ولكنه متجدد ومتغير، وكل عصر قادم مختلف عن كل عصر ماض، وكل رجال عصر الحاضر مختلفون عن رجال العصور الماضية.. وهذا هو الأمر الطبيعي، الذي يمثل حكمة الله في خلقه.. أن تسير الحياة إلى الأمام.. وأن تتجدد الأفكار والعقول.


وأصحاب نظرية السير إلى الخلف هم أنفسهم أصحاب السلوك الذي يتسم بالعدوان تجاه الآخر.. هم الداعون إلى العداء والشك والعدوان على كل من يختلف معهم.. وكما يقول الدكتور إبراهيم شحاتة أن الحقيقة أنه لا يسر أعداء الإسلام شيء أكثر من رواج هذا الاتجاه ووصول أصحابه إلى الحكم بما يضمن التخلف المستمر للمسلمين، والصراع الدائم في ديارهم، وهذا ما أعلنه صراحة الزعيم الروسي المتطرف الذي يعتبر من أكبر أعداء الإسلام والمسلمين حين قال أن أكبر آماله أن يرى الدول الإسلامية وقد غرقت في حكم المشايخ والملالي حتى يمكن السيطرة عليها دون إطلاق رصاصة واحدة.


وموقف السير إلى الأمام هو الذي يستحق أن نؤيده وندعمه.. وهو موقف من الدين على أنه سلوك حضاري وتقدمي وعلمي يلتزم بما أمر به الشرع.. والجهاد فيه هو العمل على زيادة الإنتاج، ومحو أمية المواطنين، وتحسين أحوال معيشتهم وحشد القوى من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية.. واكتساب السلطة لا يكون إلا بطرق مشروعة وليس باغتصابها بالعنف أو الخداع.. وعلاقة المواطن بالسلطة، وعلاقة السلطات بعضها بالبعض هي من أمور السياسة التي تخضع للدستور والقانون.. ودور الدولة هو رسم السياسات، ووضع القوانين، وتنفيذها، وحماية الوطن من الأخطار في الداخل والخارج، وتحقيق العدالة.. وإطلاق الفرص للمبادرات الفردية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي..


والأخلاقيات المصاحبة لنجاح هذا الاتجاه هي أولاً رفض التعصب بكل صوره..و عدم الاعتراف بحق فرد أو جماعة في الادعاء بأنها هي وحدها الممثلة للحق وكل من عداها ممثل للباطل.. وعدم الموافقة على أن تكون القوة، أو العنف، هما وسيلة حسم الاختلاف في الرأي.. وقبول مبدأ حق كل إنسان في أن يعتنق الفكر الذي يختاره لنفسه دون ضغط أو إكراه.. ودون ادعاء باحتكار الصواب..


أقصد من ذلك أن نقطة البداية للتنافس على كسب ثقة المواطنين في الانتخابات القادمة هي تحديد هوية كل تيار.. وكل حزب.. وكل مرشح.. وتحديد موقفه الفكري، وفلسفته، ورؤيته لاستراتيجية العمل.. هل يريد أن يعيد مصر إلى كهوف العصور الوسطى، ويفرض عليها مزيداً من التخلف بينما العالم يتقدم بسرعة الصاروخ.. أم يريد أن يقودنا، ويعمل معنا، ويسير بنا إلى الأمام.. ويساعدنا على الاندماج في عالم القرن الحادي والعشرين، والتعامل بندية مع منجزاته، ومعجزاته، مع شعوب العالم المتقدم، على قدم المساواة، خاصة أن مجلس الشعب القادم هو الذي سيخطو بمصر إلى عتبة هذا القرن الجديد الذي يستعد له العالم ويحفز له كل قواه لسباق التقدم الأخير.. من يخسره لن يجد أبداً فرصة لتعويض ما فاته.


وهذا يعني أن معركتنا ستكون حول الفكر أكثر مما ستكون حول الأشخاص والعائلات والعصبيات كما جرت العادة.. فالفكر هو الذي سيحدد اتجاه سير المجتمع وأفراده.. والويل لنا إذا تركنا فكر التخلف يسودنا ويقودنا، وسمحنا لأصحاب الدعوة إلى السير إلى الوراء بالإمساك ببوصلة العمل الوطني.. لأن ذلك سوف يحقق غاية المنى لأعدائنا.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف