تجديــد الحيـــاة الحزبيـــة

على باب قصر العدالة في باريس عبارة مكتوبة بخط بارز تقول: "ما فائدة القانون بدون أخلاق" وهي عبارة بليغة تؤكد حقيقة أن القانون لا يصنع الأخلاق، ولكن الأخلاق هي التي تعطي القانون الحياة، والقوة، والفاعلية.. وهذا هو المعنى الذي نحتاج إلى تأكيده عندما نسعى إلى تنقية الصحافة المصرية مما فيها من ممارسات تتعارض مع الأخلاق، ومع ميثاق الشرف، ومع أبسط قواعد العمل الصحفي النظيف.. ولكي نتعمق أكثر في الفهم ونبحث عن الخطوة الأولى للإصلاح سنجد أن أوضاع الأحزاب الصغيرة هي التي تفسر القصور في عملها السياسي والصحفي معاً.


فلدينا 14 حزباً أكثرها لا يملك المقومات الحقيقية للحزب السياسي، فهي ليست منظمات اجتماعية، وليس لها جهاز سياسي أو إداري، بل وليس لها أنصار لهم توجه فكري وسياسي واحد، وليس لديها مجموعة العقول التي تعد أفكار وبرامج وفلسفة الحزب، وليس لها دور ملموس – أو غير ملموس – في تقديم خدمات للمجتمع، وأكثر من ذلك ليس لها مبادئ محددة يدور حولها نشاطها.. ومحصلة كل ذلك أن هذه الأحزاب لا تقوم بوظيفة الحزب، وبالتالي لا تمارس دور المعارضة، ولكنها تقوم بدور آخر بعيداً عن طبيعة الأحزاب .. هو أقرب إلى أن يكون دور إثارة "الشغب السياسي" أو افتعال معارك يدور فيها اللغط وتوزيع الاتهامات.. وشتان بين ذلك الدور وبين دور المعارضة الحقيقي كما نراه في كل أحزاب العالم المتقدم.


وتكوين معظم أحزاب المعارضة في مصر تكوين غريب.. فالمفروض أن يكون الحزب وعاء يجمع أصحاب المصلحة الواحدة للدفاع عن مصالحهم وبلورة أهدافهم، وتقوم برامج سياسته لتحقيق هذا الهدف.. وهذا لا يحدث.


والمفروض أن تعمل هذه الأحزاب كمدارس لتعليم أعضائها وإيقاظ الوعي بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا أيضاً لا يحدث.. والمفروض أن تضع هذه الأحزاب لنفسها هدفاً لا تحيد عنه، هو تحقيق الوحدة القومية، وليس إثارة الفرقة والانقسام.. وأن يترفع قادتها – على مختلف مستوياتهم – عن استغلال العمل الحزبي لتحقيق مكاسب شخصية بأي صورة، وأن يغلبوا المصالح العامة.. وهذا لا يحدث..!


والمفروض أيضاً أن تكون هذه الأحزاب منابر مفتوحة لكل أعضائها للتعبير عن أفكارهم بحرية وبطريقة منظمة.. وما يحدث هو العكس.. قادة هذه الأحزاب هم الذين يتكلمون دائماً.. وأعضاؤها – إن وجدوا – ليس أمامهم فرصة إلا للصمت والاستماع..!


الأمر إذن يحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر.. لنبحث بجدية: هل ما لدينا من أحزاب هي أحزاب فعلاً أم لا.. وهل ما تقوم به هو معارضة أم لا.. والإجابة الموضوعية هي التي ستوصلنا إلى معرفة الأسباب الحقيقة للفراغ السياسي الذي يسمح بوجود تيارات سرية تفرز الإرهاب، والإرهابيين.. حيث يختفي الفكر الواضح.. وتغيب المناقشة الحرة التي تساعد على التعبير عن مختلف الآراء وإطلاق الكامن من النوازع والدوافع، وتصل إلى التوفيق بين وجهات النظر المتضاربة بدلاً من بقاء الاختلاف والتصادم والصراع..


أن العمل الحزبي الحقيقي قائم على المصالح والمبادئ.. ولكن أحزاب المعارضة لدينا الآن قائمة على مجرد موقف الاختلاف مع توجهات الحكومة.. وبعض هذه الأحزاب ليس لديها أعضاء المعنى الحقيقي.. أقصد أعضاء دائمين.. لهم سجل عضوية.. ويدفعون اشتراكات.. ويشاركون في نشاط ما داخل الحزب، داخل إطار تنظيمي، وفي ظل وجود لائحة للحزب.. وجميع الأحزاب السياسية تعمل على التوفيق بين المصالح الخاصة لأعضائها وبين المصلحة الوطنية عن طريق التمسك بالشعارات الوطنية والقومية، ولكن ما تفعله بعض أحزابنا هو مجرد الظهور بمظهر المدافع عن المصلحة العامة، أو أن تتمسح بالدين وترفع لنفسها شعارات دينية لمجرد استغلال العاطفة الدينية عند البسطاء.


والأحزاب في الأساس هي تنظيمات مشروعة لإدارة الصراع واختلاف الاجتهادات بطريقة سلمية ومتحضرة.. لكن بعض أحزاب المعارضة تستخدم أسلوب العنف السافر.. وتقوم صحفها بالتحريض على العنف بطريق غير مباشر.. بل أن أقلاماً معينة في صحيفة لا تكتب آراء أو انتقادات.. ولكنها تمارس الإرهاب السياسي ممارسة حقيقية وتزرع مناخ الإرهاب بما تكتبه من ألفاظ وعبارات تتجاوز أخلاقيات العمل السياسي النظيف..


ونتيجة لذلك لا نكاد نرى لهذه الأحزاب أثراً أو فاعلية في الشارع السياسي المصري.. ولا نلمس لها وجوداً في تكوين الرأي العام.. وبعضها يحاول تصوير قادتها على أنهم "زعماء الأمة" بينما هم في الحقيقة مجردون من صفات الزعامة أو فقدوها منذ زمن طويل دون أن يشعروا أو دون أن يجدوا في أنفسهم الشجاعة على الاعتراف بذلك.. فهي أحزاب أشخاص يريدون أن يجلسوا في الصفوف الأمامية في المناسبات العامة ولاشيء غير ذلك.. لا هم مؤهلون للزعامة أو للقيادة.. ولا هم من أصحاب الرؤية السياسية الواضحة.. ولا هم ممن صقلتهم الخبرة والتجربة السياسية الطويلة، ولا هم من ذوي القدرة التنظيمية أو من أصحاب القدرات والمواهب الخاصة.. ولا لديهم الشخصية القيادة التي تجعل لهم مكاناً في الميدان السياسي.


وبعد كل ذلك فإن موضوع تمويل أحزاب الأقلية يستحق التفكير.. فأي حزب يحتاج إلى تمويل يكفي للأنشطة التي تجعله حزباً بمعنى الكلمة.. والمفروض أن تكون اشتراكات وتبرعات الأعضاء هي المورد الرئيسي.. ومن أهم ضمانات العمل الحزبي أن تكون موارد الأحزاب معلنة ومعروفة بالتفصيل وذلك لتوفير الطمأنينة على توافر النزاهة وعدم وجود مصادر للتمويل من وراء ستار..


ومادامت أحزاب الأقلية القائمة الآن لا تتوافر فيها المقومات الأساسية للأحزاب.. فإن ذلك يطرح مسألة الاحتياج إلى ظهور حزب معارض جديد على أساس علمي وموضوعي.. حزب بالمعنى الحقيقي. له قيادات تستطيع أن تمده بالفكر.. وله مبادئ واضحة.. وقادر على التأثير في الرأي العام وجذب الأنصار والاعتماد على نفسه في تمويل نشاطه.. ويمكن أن يكون مقنعاً حين يخاطب الجماهير.. بعد أن فقدت بعض الأحزاب المعارضة القائمة الآن مصداقيتها وانكشفت حقيقتها التي كانت تخفيها بالنفاق السياسي والتلاعب بالشعارات والمبادئ.. فنحن نحتاج إلى حزب يعارض معارضة حقيقية ناضجة وعاقلة وموضوعية.. حزب تكون له صحيفة تعبر عن آرائه باحترام.. لأننا أصابنا الملل من هذه الكيانات الهزيلة التي تتمسح في صحف أكثر هزالاً.. فيها كلام أشبه بأصوات الطبل الأجوف.. رنين عال.. ليست له نتيجة إلا حث الجماهير عن الانصراف عن العمل السياسي والحزبي.. وليس هذا هو المطلوب.


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف