استمرار البنـــاء الحضــاري

كان غريباً في المؤتمر الصحفي للرئيس حسني مبارك فور وصوله إلى أرض الوطن، عقب الجريمة البشعة التي جرت في أديس أبابا أن يوجه إليه سؤال حول أثر هذه الجريمة على مسيرة الديمقراطية في مصر.. فقد كان السؤال ينطوي على شعور ومخاوف من أن يكون رد فعل الرئيس على المؤامرة البشعة، هو رد الفعل المعتاد في مثل هذه الأحوال، بسحب مساحة الحرية المتاحة، والتضييق على أصحاب الفكر، والتراجع عن التعددية السياسية، والنظر إلى كل صاحب رأي مختلف على أنه عدو.. وسيادة جو م التوتر والتوجس في المجتمع.


وربما يكون هذا هو رد الفعل المعتاد الذي حدث في دول أخرى، وربما يكون السؤال متأثراً بنظرة بعض رجال الصحافة الغربية الذين لا يعرفون شخصية وتكوين مبارك ولا يدركون حقائق ما يجري في مصر من تحولات سياسية واجتماعية وثقافية كبرى في اتجاه الديمقراطية وتوسيع نطاق الحريات.. ولكنه على أية حال سؤال قد يكون ضمن شواغل البعض في الخارج، لم يخطر على بال المصريين، ولم يشغلهم، لا في أعقاب الحادث، ولا بعد أن هدأت حدة الانفعال وبدأ التحليل العقلي لما حدث، ولما يجب عمله لحماية مصر من المخاطر التي تحيط بها، ومن المؤامرات التي تدبر من قوى تستطيع أن تعمل عبر حدود الدول، ولديها مصادر التمويل والتسليح..


وإن كان هناك من كانت تساوره شكوك حول استمرار الديمقراطية، فقد أصبح الأمر الآن واضحاً، بعد أن كرر الرئيس مبارك في لقاءاته مع حشود الجماهير، ومع أعلى مستويات القيادة في مصر، أن مسيرة الديمقراطية مستمرة، وأن حماية الوطن، ومواجهة الإرهاب سواء بفروعه في الداخل، أو بجذوره الممتدة في الخارج، لن تكون إلا في إطار الديمقراطية..


والمنطق في ذلك بسيط واضح.. فإن التصدي للإرهاب يحتاج إلى جبهة داخلية قوية ومتماسكة، وإلى رأي عام يقظ وواع، وإلى عقول متفتحة وقادرة، وإلى ثقافة تحرك في الشعب القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وبين نداء الحق وأكاذيب الشيطان، وهذا يعني أن المثقفين هم خط الدفاع الأول على جبهة التصدي شعبياً للإرهاب،وبالتالي لابد أن يكون لهم موقع القيادة، وأن تتاح لهم المنابر التي يستطيعون من خلالها التوجه إلى الرأي، وكشف الأفكار الخاطئة والمنحرفة، ومحاربة التكفير.. والإرهاب الفكري.. وكشف حقيقة الفكر الذي يمثل قاعدة الهرم بالنسبة للإرهاب في أي مكان.. فالإرهاب يقوم على قاعدة عريضة من إثارة المشاعر لدى قطاعات من العامة ومحدودي الثقافة لكي ينتشر بينهم الإحساس بأن أصحاب الرأي كافرون.. وأن السلطة كافرة.. وأن الدولة كافرة.. وأن المجتمع كله كافر.. وأن رجال الدين وأهل العلم بالعقيدة والشريعة هم أيضاً كافرون.. وفوق هذه القاعدة من "الوهم الشائع" أو "الكذب المنتشر" يسهل تجنيد عناصر من الشباب لها تكوين خاص واستعداد للجريمة، كما يسهل إسباغ الطابع العقائدي على هذه الجريمة، ثم يأتي إغراء المال ليصبح دافعاً لارتكابها.


وفوق هذه القاعدة تأتي طبقة المخططين والمدبرين للجرائم الإرهابية، وهم ليسوا إلا زعماء عصابات يجيدون استخدام الشعارات الزائفة والأفكار البراقة، كما يجيدون القيام بعمليات "غسيل المخ" للإتباع بحيث يفقدونهم القدرة على التفكير المستقل، أو رؤية الحقائق، وأخيراً على قمة الهرم تظهر أمامنا مجموعات المجرمين الذين يمسكون السلاح، وينفذون عملياتهم في القتل والاغتيال.


نحن إذن أمام ظاهرة إجرامية ممتدة. لها وجود في الداخل، لكن هناك حبلاً سرياً يربط وجودها الداخلي بتنظيم إرهابي مركزي في الخارج.. ونحن أمام جريمة ضد المجتمع كله تبدأ.. بالفكر المضلل والثقافة المسمومة، غطاء لحقيقتها الإجرامية. وبالتالي فلا يمكن القضاء عليها من منابعها، واقتلاع جذورها، إلا بثقافة مختلفة تسود في المجتمع، ثقافة تكشف الحقائق.. وتضيء العقول وتعود الشباب على استخدام العقل والتفكير المستقل.. ثقافة تواجه وتكشف التضليل وديماجوجية الفكر.


هنا نجد أن الديمقراطية هي السلاح الحقيقي والوحيد للمواجهة.. لأن الفكر لا يزدهر إلا في مناخ الحريات.. والخفافيش تجد فرصتها في الظلام.. والضوء يقضي عليها.. الثقافة الحرة التي تبني العقول لا يمكن أن تزدهر إلا في مناخ الحريات والنظام السياسي لا يجد سنده الشعبي إلا في ظل الديمقراطية.. ولن تترسخ في النفوس معاني الولاء والانتماء إلا في مناخ الحرية.


لذلك فمن الطبيعي أن تكون الديمقراطية الآن، وبعد الجريمة المنكرة في أديس أبابا، هي السلاح الرئيسي الذي يهزم الإرهاب في الداخل والخارج.. وهي المناخ الذي يسمح لقوات الدفاع عن الوطن بالفكر والثقافة بالانطلاق.. وهي التي تضيق الفرصة أمام فكر الإرهاب وثقافته، وتسلبه المناخ الذي لا ينمو إلا فيه .


وعند تحليل أهداف مؤامرة أديس أبابا يمكن أن نصل إلى نتائج كثيرة.. أهمها في رأيي أن الديمقراطية في مصر هي المستهدفة.. لأن مصر في فترة حكم مبارك أسفرت فيها الديمقراطية واستقرت حتى أصبحت مصر قاعدة الحريات.. ولا مجال لمقارنتها بعشرات الدول الأخرى.. وهذه الديمقراطية لا تكتفي بالحد الذي وصلت إليه ولكنها تتطور وتزداد رسوخاً واتساعاً، وتتحول إلى ممارسة يومية معتادة للمصريين.. وهذا يعني أن تطور المجتمع المصري سياسياً وحضارياً أصبح أكبر بكثير من المجتمعات المماثلة على خريطة العالم.. وإذا لم تحدث انتكاسة لهذه الديمقراطية فإن الخطر سوف يلحق بالمجتمعات الراكدة والمتخلفة التي جمدت فيها العقول، وفقدت الحيوية السياسية، ولم تعد قادرة على التطور..


الهدف هو إثارة ستار من الدخان حول التجربة المصرية.. وإثارة الشكوك حول جدوى الديمقراطية فيها. بل وإيجاد ظروف للكفر بالديمقراطية لكي يحدث التراجع، وتنتكس مصر – كغيرها – إلى عصور الظلام والتخلف.


وأكبر ضربة لمن خططوا للمؤامرة أن كتب الله النجاة لمبارك.. مما يعني أن الديمقراطية في مصر سوف تستمر.. بل وسوف تقوى.. وفي ذلك نهاية الإرهاب. واستمرار البناء الحضاري الكبير الذي كرس له مبارك حياته منذ تولي المسئولية. أما الذين يتعارض ذلك مع مصالحهم وأهدافهم فسوف يكررون المحاولة، وهذا يلقي مسئولية على كل مصري لكي يكون مستعداً في كل لحظة.


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف