سر المعجـزة الألمـانيـــة

في برلين متحف كبير متعدد الطبقات أنشئ مؤخراً لتاريخ ألمانيا الحديث، أرادوا أن يكون تجسيداً لمرحلة النكسة الكبرى، والهزيمة التي تجرعت ألمانيا مرارتها بعد الحرب العالمية الثانية.. لكي تبقى هذه المرحلة السوداء حية، وماثلة في أذهان الأجيال الجديدة التي ولدت لترى ألمانيا قوية، وغنية، ومنتصرة.. ولم تعش أيام الغارات التي كانت تستمر شهوراً تسقط فيها الطائرات آلاف الأطنان من القنابل، وتدمر كل شيء، وتقتل الآلاف دون أن تعطي للأحياء فرصة لدفنهم إلا بتكديس الجثث فوق بعضها بالمئات في عربات لإلقائها في مقابر جماعية دون أي طقوس جنائزية، ودون أن يجدوا وقتاً للدموع..!


في هذا المتحدث صور حقيقة للمصانع التي دمرت ولم يتبق منها جدار واحد.. والأحياء التي أبيدت بالكامل.. وللنساء والرجال وهم يحملون المعاول والتراب يكسو وجوههم، والجوع يرسم ملامحه القاسية على وجوههم، وهم يعملون على إعادة بناء أي شيء يمكن أن يأويهم.. وإقامة مصانع جديدة ببقايا المصانع القديمة التي أعيد تجميعها.. إلى أن عادت الصناعة الألمانية مرة أخرى بعد أن رفعوا شعار "نعطي دون أن نأخذ".. إلى أن وصلوا الآن إلى مرحلة "لا نأخذ أكثر مما نعطي""..


يستطيع زائر هذا المتحف أن يلمس بعض أسرار المعجزة التي حققها الألمان.. ويتوصل إلى "كلمة السر" التي فتحت الطريق أمام الانتقال من الخراب الشامل إلى القوة الشاملة.


وكلمة السر في هذه المعجزة هي "الجدية".. فالشعب الألماني يتميز بأنه يتعامل مع شئون حياته بجدية.. حتى في اللهو والحب وا لسياحة.. تماماً كما في العمل.. كل شيء بحساب.. ولابد أن يتم بدقة.. لابد من التفكير والتخطيط لكل شيء قبل التنفيذ بوقت طويل.. والتنفيذ دائماً على خطوات أو مراحل كل منها محسوب والمسئوليات فيها محددة.. ولذلك فإن كل شيء مهما يكن صعباً، يتم تنفيذه بهدوء وبسهولة تجعل من يتابعه من بعيد يتصور أنه لم يستغرق جهداً وتفكيراً طويلاً من قبل.


لكن المفتاح الحقيقي لكل ما أنجزته ألمانيا في سنوات العرق والدموع، ومازالت حريصة عليه حتى الآن أشد الحرص، هو التعليم.. فكل مواطن في ألمانيا، بل وكل من يعيش في ألمانيا حتى من غير الألمان، له الحق في أن يختار التعليم الذي يراه مناسباً له، والتخصص، الذي يتفق مع قدراته واستعداده، وهذا الحق من الحقوق الجوهرية التي يقررها الدستور، ونتيجة لذلك فإن الدولة مسئولة عن توفير التعليم الجيد ومجاناً في كل المراحل، حتى التعليم الجامعي، وفي كل مراحل الحياة يستطيع المواطن أن يلتحق بالتعليم ليغير مهنته أو تخصصه.


والدليل على أن مفتاح التقدم في ألمانيا هو التعليم، أنها تخصص له ميزانيات هائلة، وجملة الإنفاق على التعليم من ميزانيات الحكومة الفيدرالية، وحكومات الولايات، ومن المؤسسات الصناعية الكبرى، بلغ 156 ألف مليون مارك في عام 1989، في ألمانيا الغربية فقط، حيث كانت ألمانيا الشرقية مازالت خلف أسوار الشيوعية.. ويخصص للتعليم في ألمانيا 7% من جملة الإنتاج القومي.


والدليل على أن التعليم هو "المفتاح" في ألمانيا ليس فقط في كبر حجم ميزانيات التعليم.. أو في الاهتمام الشديد برفع مستوى المردسة.. ولكن أيضاً برفع مستوى المدرس علمياً.. ومهنياً.. ومادياً. وحين سألت عن متوسط أجر المدرس بالقياس إلى متوسطات الأجور في المهن الأخرى، وجدت أن مهنة التدريس ذات راتب أكبر.. ولذلك يتنافس الراغبون في العمل فيها على تحسين أدائهم.. ولا يحتاج المدرس إلى التفكير في إعطاء دروس خصوصية.. أو العمل بعد الظهر في أعمال إضافية.. وكل وقته لتلاميذه دون أن يكرهه أحد على ذلك، لذلك فإن التلاميذ يحبون المدرسة، ويقضون فيها أوقاتاً بعد انتهاء الدراسة.. ولا يفرون منها هاربين فور سماع الجرس كما يحدث عندنا..!


والتعليم في ألمانيا إجباري لكل طفل من سن 6 سنوات حتى 18 سنة.. لمدة 12 سنة متصلة.. واليوم الدراسي كامل.. والكتب والأدوات والخامات والأجهزة متوافرة دون أن يدفع التلميذ شيئاً.. ورغم أن ألمانيا أغنى دولة في أوروبا إلا أنها لا تطبع الكتب المدرسية كل سنة وتوزعها بالمجان ليلقي بها التلاميذ آخر العام.. ولكن كل تلميذ عليه في آخر السنة الدراسية أن يعيد الكتب الدراسية التي تسلمها في أول السنة بحالة جيدة لتوزع على تلاميذ العام التالي.. وتستمر الكتب في التداول لمدة ثلاث سنوات أو أربع سنوات.. وفي ذلك ضمان لتوفير النفقات في جانب مهم من جوانب الإنفاق ليوجه إلى ما هو أهم.. المعامل والتدريب.. وحين سألت خبراء التعليم عن مرحلة التعليم الابتدائي هل من الأفضل أن تكون خمس أو ست سنوات.. قالوا يجب ألا تقل عن ست سنوات وقد أخطأتم باختصارها سنة!


وأعظم ما في نظام التعليم الألماني هو نظام "التعليم المزدوج" الخاص بإعداد ما تتميز به ألمانيا من طبقة العاملين الفنيين في التخصصات الدقيقة.. فهذه المدارس تعد الفنيين لتشغيل وصيانة أجهزة الكمبيوتر.. وأجهزة الليزر.. وفي الصناعات الإلكترونية الدقيقة.. وفي التخصصات الراقية..


وهذا التعلم بالذات مرتبط بالمجتمع الألماني عضوياً.. فهو قائم على أساس الارتباط باحتياجات الصناعة.. ويتطور بتطور الأداء في المصانع.. ويساير كل جديد في التكنولوجيا.. وهو لا يخرج الفنيين للصناعة..ولكنه يعد الفنيين الذين تحتاجهم الصناعة.. فكل مصنع من المصانع الكبرى أو الصغيرة يتعاقد مع التلميذ قبل التحاقه بالمدرسة الصناعية على أن يدرس التخصص الدقيق الذي يحتاجه المصنع، ويقضي التلميذ يوماً واحداً – أو يومين- في المدرسة في تلقي الدروس النظرية التي تمثل الأساس العلمي للعمل الذي سيقوم به، والتخصص الذي يختاره.. ويؤدي امتحانات دورية في هذه العلوم، بينما يقضي بقية أيام الأسبوع في المصنع في التدريب على العمل، وممارسته فعلاً، تحت إشراف رؤساء العمال ذوي الخبرة العملية.


وهذا هو النظام الذي نسعى إلى إدخاله في مصر، ويعرف عندنا باسم "مشروع كول – مبارك" وتخصص الحكومة الألمانية من جانبها التمويل والمعدات والأجهزة المتقدمة للتدريب، على أن تخصص وزارة التعليم في المدارس المباني والمدرسين والمناهج.


وعندما ناقشت المسئولين عن التعليم في ألمانيا وجدتهم متحمسين لنجاح التجربة في مصر، ولكنهم يرون أن التنفيذ يسير ببطء.. وأن المشروع يحتاج إلى رابطة بين المدارس والمصانع.. لأن فلسفة المشروع أن المصانع هي التي تحدد في ضوء احتياجاتها الفعلية التخصصات والمهن التي يجب أن تركز عليها كل مدرسة في كل فترة..


الفارق بين هذا النظام وبين نظام التعليم الفني عندنا.. أننا نعلم التلاميذ دون أن نربطهم بمواقع إنتاج.. ودون أن تكون المصانع محتاجة للتخصصات التي نعلمهم عليها.. فيكون مصيرهم البطالة.


وهذا ما يحتاج منا إلى إعادة نظر شاملة .


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف