ما بعد زيارة كول

عندما تنتهي زيارة المستشار الألماني هيلموت كول للمنطقة بعد أيام، تبدأ ألمانيا مرحلة جديدة في تنفيذ سياستها في زيادة الانفتاح نحو الشرق الأوسط، وهي سياسة تحرص ألمانيا على تنميتها في ظل الظروف الجديدة التي تحيط بها.


فالحكومة الآن أوشكت أن تفيق من دوامة تحقيق الوحدة بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية ووضعت الأساس لهذه الوحدة، ويسير التنفيذ الآن بخطوات ثابتة للتغلب على المشاكل التي تفرغ الألمان لدراستها بجدية، ووضعوا لها حلولاً حاسمة، سواء المشاكل الاقتصادية الناتجة عن تدهور الصناعة والتكنولوجيا في ألمانيا الشرقية بالنسبة للتقدم الهائل الذي حققته ألمانيا الغربية، أو المشاكل المالية نتيجة انخفاض قيمة المارك في ألمانيا الشرقية، وسيطرة الدولة بنظامها السابق على كل وسائل الإنتاج، أو المشاكل الثقافية والسيكولوجية بعد أن أفسد النظام الشيوعي عقول الناس في ألمانيا الشرقية، وجعلهم يعيشون عالة على الدولة، وأفقدهم القدرة على التفكير المستقل والمبادرة، والطموح..


انتهت ألمانيا الآن من دراسة هذه المشاكل ووضعت لها خطة عمل كبيرة ومتكاملة.. وتم الآن تحويل كل شركات القطاع العام إلى القطاع الخاص.. كما تمت إعادة بناء البنية الأساسية بالكامل بما في ذلك شبكات الطرق والكباري والقطارات والأنفاق وخطوط المياه والكهرباء.. وبدأت الشركات الألمانية الكبرى تتجه إلى ألمانيا الشرقية لإقامة صناعات ذات تكنولوجيا عالية.. وانتهت مرحلة توحيد مناهج التعليم.. كما انتهت مرحلة أكثر دقة وهي إزالة الحساسية والمشاعر السلبية لدى كثير من الألمان في ألمانيا الشرقية الذين شعروا بشعور داخلي وعميق بأنهم هزموا مرتين.. مرة عندما اجتاحت القوات الروسية أراضيهم وفرضت عليهم الشيوعية اقتصادياً وثقافياً، وأصبحوا من أشد المدافعين عن الماركسية اللينينية، ثم اجتاحهم الألمان الغربيون ليدفعوهم إلى التحول إلى الرأسمالية والفكر الفردي واقتصاد السوق وإعادة مسئولية الفرد عن نفسه وعن تحديد مستقبله.


ولم يكن هذا التحول سهلاً، لكنه تم، خلال السنوات الخمس الماضية بقوة، وبسرعة، وبخطوات ثابتة، جعلت ألمانيا تسترد قدرتها الاقتصادية التي تأثرت نتيجة تكاليف الوحدة التي زادت على 500 مليار دولار، وبدأت تتجه إلى دور يليق بها في الاتحاد الأوروبي، وهي مؤهلة بحكم قوتها الاقتصادية، ومقدرتها الهائلة على المنافسة مع أكثر دول العالم تقدماً في الصناعة، والتكنولوجيا الدقيقة، وتفوقها في إنتاج سلع بجودة وأسعار تفوز في أسواق المنافسة العالمية، وكل هذا يجعلها قادرة على تولى موقع القيادة في أوروبا.. ولعل هذا هو سر الحركة الألمانية النشيطة داخل الاتحاد الأوربي، سياسياً، واقتصادياً، وهي الآن – بكل المقاييس – القوة الأوروبية رقم واحد، وهذا هو الذي يجعلها تشعر بأن من حقها الآن أن تزيد من قدرات قواتها المسلحة، وأن تشارك في المسئوليات الدولية سواء في قوات حفظ السلام أو غيرها، ويجعلها أيضاً تمارس هذا الدور القيادي داخل منظمات الوحدة الأوروبية.


ومع ازدياد فاعلية الدور الألماني في أوروبا بدأت تتجه بقوة أكبر إلى حوض البحر الأبيض المتوسط وإلى منطقة الشرق الأوسط واقترابها من الشرق الأوسط يتميز بميزة خاصة، هو أنها لا تسعى إلى فرض أي نوع من السيطرة السياسية أو الاقتصادية، ولا تريد أن تكون لها الكلمة العليا أو أن تفرض سياسات معينة على دول المنطقة، وليست لديها استراتيجية للإمساك بزمام الأمور فيها بأي شكل.. وكل ما تريده هو تأمين مصالحها البترولية في المنطقة، وفتح أسواق جديدة وتوسيع أسواقها القائمة، وزيادة جسور الثقة لكي تواصل تقدمها الاقتصادي على هذا الأساس. ولذلك فإن سياسة ألمانيا لا تريد أن يكون الحب من جانب واحد في علاقتها مع دول الشرق الأوسط.. ولا تفكر في أن يكون مفروضاً على دول المنطقة أي صورة من صور التبعية لها، وهي على العكس من ذلك تحترم تاريخ وتراث المنطقة، ويكفي أن نرى الاحترام الذي يتعامل به الألمان مع التاريخ والحضارة القديمة في مصر، بزحام المترددين على متاحف الحضارة المصرية في برلين وغيرها.. أو في الحرص على التعرف على الثقافة الإسلامية والعربية في الجامعات ومراكز البحوث العديدة، وهي بالمئات في ألمانيا.. أو بالعلاقة الخاصة التي تربط بين المصريين والألمان بشكل خاص، وبين الألمان والعرب بشكل عام، كما تتمثل في تدفق الألمان للسياحة في مصر.. وليس في ألمانيا شخص لم يزر مصر أو يخطط أو يفكر في زيارتها.. ويكفي أن نرى الدور الحضاري الذي يقوم به معهد جوتة في الدول العربية باعتباره الجسر الذي يربط بين الثقافتين.. وأن نرى المؤسسات الألمانية التي تعمل في مجالات عديدة للتعاون وتقديم مساعدات جدية وحقيقية  وذات آثار مفيدة في مصر.. وفي مجالات عديدة.. في التعليم تشارك هذه المؤسسات في بناء وتجديد عدد من المدارس وفي إقامة مدارس للتعليم الفني الذي تفوقت به ألمانيا على كل دول العالم واستطاعت أن تعد من خلال هذه المدارس طبقة من الفنيين هي التي تقود الصناعة الألمانية المتفوقة.. وفي التنمية الاجتماعية تعمل هذه المؤسسات في تنمية المناطق العشوائية، وتساعد في مشروعات محو الأمية والرعاية الصحية في الريف والمناطق العشوائية.. وفي المجالات الاقتصادية أصبحت ألمانيا أكبر دولة أوروبية مانحة للمساعدات للشرق الأوسط.. وأكبر دولة أوروبية لها استثمارات في صناعات منتجة مشتركة..


كما أن الموقف الألماني في قضية السلام والحقوق الفلسطينية يتسم بالإنصاف والتوازن.


وهكذا جاء التقارب بين مصر وألمانيا كما تجلى في نجاح مباحثات كول ومبارك في القاهرة.. لأن هذه المباحثات قامت على أرضية من الثقة من الجانبين.. ومن صداقة حقيقية يمكن الاعتماد عليها.. ومن رغبة في التعاون لا تخفي وراءها نوايا خفية..


وكان طبيعياً أن يكون التوافق في المباحثات مثمراً.. لأن ألمانيا ومصر كلتاهما له دور قيادي خاص في منطقته.. ولأن بينهما تاريخ طويل من التفهم والتفاهم والصداقة التي لم تعكر صفوها الأطماع.. وكما أن ألمانيا لديها الأموال ورجال الأ‘مال النشيطون والخبرة والتكنولوجيا، فإن مصر لديها خطة للتنمية ولديها قدرات علمية وفنية وبنية أساسية أصبحت مستعدة لهذه المرحلة الجديدة من التعاون. وكما أن مصر لا تريد أن تكون السياحة فقط هي مجال التعاون والتعبير عن الصداقة والعلاقات التاريخية بين الشعبين.. فإن ألمانيا أيضاً تريد إقامة مشروعات اقتصادية كبيرة تتوافر لها عوامل النجاح وتحقق مصلحة للجانبين..


وعلى هذه الأرضية المشتركة دارت مباحثات مبارك وكول، وما أعلن عن نتائجها الآن يكفي للقول بأن الطريق بين ألمانيا ومصر لم يعد طويلاً.. ولم تعد ألمانيا بعيدة.. وأن هناك جهوداً يجب أن يبذلها المسئولون في الجانبين لتحويل الأفكار المهمة التي اتفق عليها الزعيمان إلى مشروعات وحقائق.. ومن حسن الحظ أن أصدقاءنا الألمان هم أكثر شعوب الأرض صدقاً وجدية.. فإذا وعدوا فهم جادون في وعودهم.. لأنهم – تاريخياً – لا يعرفون المراوغة التي اعتدنا عليها من أصدقاء آخرين.. ولا يقدمون من الوعود إلا بالقدر الذي يريدون تنفيذه بالفعل وبالضبط.. ومن حسن حظنا أن المباحثات بين مبارك وكول كانت صريحة ومجدية بحيث يمكن اعتبارها البداية لهذه المرحلة.. ولاشك أن إصرار كول على أن تكون أول محطة له في رحلته هي القاهرة.. وأن يكون مبارك هو أول زعيم يستمع له.. وأن تكون مصر هي البداية.. لاشك أن لذلك معنى لا يخطئه أحد..


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف