طه حسين فى مرحلة التكوين [3-3]
ثلاث محطات رئيسية فى حياة طه حسين كان لها الفضل فى تكوين عقليته وثقافته وشخصيته الأدبية بالإضافة إلى ما كان يتمتع به من قوة التحمل لأشد الصعاب.
المحطة الأولى هى الأزهر، والثانية هى الجامعة المصرية التى تفتح فيها عقله على مناهج جديدة بفضل كبار الأساتذة المستشرقين والمصريين، والمحطة الثالثة هى فرنسا عاصمة النور والحرية بثقافتها وحضارتها والكوليج دى فرانس وجامعة السوربون والمكتبات الزاخرة والأوبرا والمتاحف الكبرى.. إلخ وفيها تمكن طه حسين من أن يجمع بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب ويصير بعد ذلك مفكرًا وأديبًا عالميًا بحق.
وتملؤنى الدهشة كلما تأملت المعانأة التى تحملها من أجل أن يتعلم وأتمنى أن يتأملها الشباب ليدرك أن الصعود إلى القمة لايتحقق الا لأصحاب العزيمة وقوة الإرادة الذين لايعرفون اليأس مهما اشتدت المصاعب.لقد سافر مع شقيقه ليساعده فى الغربة فتخلى عنه وانصرف إلى اللهو فى باريس وتركه وهو كفيف يتخبط فى طرقات العاصمة الفرنسية فاقتطع من طعامه أجر سيدة تذهب به إلى الجامعة وتعيده إلى مسكنه، ولأنه اضطر إلى أن يقتطع من طعامه مرة ثانية أجر سيدة تقرأ له إلى أن أهدى الله إليه الفتاة التى تزوجها فكانت هى الانقاذ. ووجد صعوبة فى متابعة الدروس باللغة الفرنسية فأخذ يدرس مقررات التلاميذ الفرنسيين من البداية حتى نهاية المرحلة الثانوية وبذلك استطاع أن يتابع ويفهم مايسمعه وما يقرأه مثل زملائه الفرنسيين.
***
التحق طه حسين بالكوليج دى فرانس فدرس على يد أكبر مستشرق فرنسى (بول كازانوفا) صاحب المؤلفات الكبرى عن الحضارة العربية، وعن تاريخ الفاطميين فى مصر، وعن تاريخ قلعة القاهرة، وعن عقائد وآلهة العرب فى الجاهلية، وقد خصص كازانوفا عامًا كاملاً عن ابن خلدون وكتب أنه صاحب الفضل فى إنشاء منهج البحث العلمى فى التاريخ، وفى نشأة علم الاجتماع واعتباره المؤسس الحقيقى لهذا العلم وهو الذى أطلق عليه هذا الاسم، وكان ابن خلدون يطلق عليه اسم (علم العمران).
ودفع الطموح طه حسين إلى أن يدرس للحصول على درجة الليسانس فى الأداب والدراسة والامتحانات فيها صعبة ولا يدرسها إلا الفرنسيون، وحصل على الليسانس كأول مصرى يتمكن من ذلك.. وفى نفس الوقت كان يدرس فى السوربون الحضارة والتاريخ والأدب والفلسفة فى العصور القديمة والحديثة، ويدرس علم الاجتماع على يد إميل دور كايم مؤسس هذا العلم مع أستاذه أوجست كونت. وفى نظرية أوجست كونت أن الظواهر الاجتماعية تخضع لقوانين ولا تحدث عشوائيا، وأن الفكر هو المحرك الأساسى لتطور المجتمع، وأن المجتمع كائن حى يمر بمراحل النشأة ثم النضج ثم الشيخوخة والاضمحلال، وهذه الأفكار الثلاث الأساسية سبق إليها ابن خلدون وأوجست كونت ودوركايم وتلاميذهما كانوا يدرسون ابن خلدون باعتباره المؤسس الحقيقى لعلم الاجتماع وللمنهج العلمى فى دراسة التاريخ.
***
أما دوركايم فكان تأثيره على طه حسين كبيرًا وكان هوالمشرف على رسالته للدكتوراه عن الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون وقد توفى دور كايم قبل مناقشة الرسالة وأشرف عليها أحد تلاميذه،وكانت نظريته قائمة على أن العدالة الاجتماعية والتضامن الاجتماعى كفيلان بالقضاء على الصراع الاجتماعى وتحقيق الاستقرار فى المجتمع، وأن تطور أى مجتمع يتوقف على مدى اتصاله وتفاعله مع المجتمعات الأخرى، وأن المجتمع القوى ليس المجتمع الذى يكون أفراده كلهم نسخًا مكررة لهم فكر واحد وقيم ومعتقدات موحدة، ولكن المجتمع القوى هو الذى تتعدد فيه الأفكار والقيم والمعتقدات ويؤدى الاختلاف والتعدد إلى تكامل اعضاء المجتمع كما هو الحال فى الكائن الحى، فأعضاؤه ليست متشابهة.. المخ مختلف عن القلب وكلاهما مختلف عن الكبد والرئتين وبقية الأعضاء، ولكن هذه الأعضاء المختلفة كلها ضرورية لايستغنى الجسم عنها وتتكامل هذه الأعضاء فتحقق القوة للكائن الحى. وكان أوجست كونت يختلف مع الاشتراكيين الذين يطالبون بإلغاء الملكية الخاصة ويرى أنها من مكونات المجتمع السليم، ويرفض تفسيرهم للصراعات فى المجتمع بأن سببها اقتصادى ويرى أن الصراعات سببها أخلاقى. والاصلاح الاجتماعى عنده لن يتحقق إلا بالتربية وبوجود سلطة قوية ووجود «فكر» يوجه الحياة الاجتماعية، و «قيم» تترسخ فى الضمير الجمعى، ويرى أن المجتمع الضعيف هو الذى تزداد فيه القوانين القمعية والمجتمع المتماسك تسود فيه القوانين الاصلاحية.. ولا شك أن طه حسين تأثر بهذه الأفكار وبغيرها مما درسه فى فرنسا فى الجامعات أو فى المكتبات أو فى مخالطة كبار المثقفين الفرنسيين.
***
وقد تعمق طه حسين فى دراسة التاريخ فى السوربون بما فى ذلك تاريخ العصور القديمة وخاصة تاريخ اليونان والرومان بالتفصيل، وتاريخ العصور الوسطى، والتاريخ الحديث، وكذلك دراسة الجغرافيا والفلسفة وعلم النفس.
وكان عليه أن يدرس الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة. فى الفلسفة اليونانية درس فلسفة سقراط التى تبدأ بالبحث عن حقيقة الإنسان ومعنى حياته مستلهمة الحكمة التى كانت مكتوبة على معبد «دلفى» وتقول: «أعرف نفسك بنفسك» ورأى سقراط أن الاخلاق ثابتة فى كل زمان وكل مكان وليست نسبية والعقل الإنسانى واحد والفارق هو ما يحيط بالعقل من الحرية والعلم، والإنسان لايفعل الخير وهو لايعرفه، ولذلك يجب تعليم الفضيلة للإنسان منذ نشأته، وكان سقراط يعلم الشباب الحوار وحرية التفكير.. وقد تأثر طه حسين بفلسفة أفلاطون التى تضع العقل فى أعلى مكان، ومنهجه تحليل الأفكار وتحديد المعانى..معنى الخير.. والعدل.. والفضيلة.. والحق.. والقانون.. وهل القانون العادل هو الذى يحقق مصالح الأقوياء أو أن القانون العادل له قوة فى ذاته ويتقبله ويطبقه الجميع عن طواعية؟
كان طه حسين أشد تأثرا بفكر ثلاثة من الفلاسفة هم أرسطو فى العصر اليونانى وديكارت وكانط فى العصر الحديث مع أن دراسته فى السوربون شملت فلاسفة العصور القديمة والحديثة. وكان أرسطو كما هو معروف واسع المعرفة وتنوعت كتبه فى علم المنطق وعلم الحيوان والأخلاق وما وراء الطبيعة (الميتا فيزيقا) والسياسة والفن والفلك.
والفكر فى رأيه له قوانين تؤدى إلى الحقيقة بانتقال الفكر من المقدمات الصحيحة إلى النتائج الصحيحة،ومهمة المفكر هى البحث عن العلة والسبب لكل ظاهرة من ظواهر،الفكر والمجتمع والحياة وعدم الاكتفاء بماهو ظاهر وهذا ماتلاحظه فى طه حسين من ميله إلى التحليل والبحث عن العوامل والأسباب وراء كل ظاهرة من الظواهر السياسية أو الأدبية أو الاجتماعية، وقد ترجم طه حسين كتاب أرسطو نظام الأثينيين عن اللغة اليونانية القديمة وكان يدرسه للطلبة عندما عين أستاذا فى الجامعة المصرية، كما كان يكتب كثيرًا عن نظرية أرسطو فى الفن ورأيه بأن الشعر التمثيلىهو أرقى أنواع الفن لأنه يؤدى إلى تطهير النفس من الانفعالات والاشاعر والأفكار السلبية.
***
أما فلسفة ديكارت فقد تأثر بها طه حسين بمنهجه فى عدم التسليم بالأفكار الشائعة فليس كل فكرة معروفة ومتداولة هى فكرة صحيحة، وإذا كان فى العقل فكرة واحدة فاسدة فإنها يمكن أن تفسد كل الأفكار، كما أن تفاحته واحدة فاسدة يمكن أن تفسد كل التفاح فى ذات الصندوق. ولهذا يبدأ ديكارت بالشك فى كل شىء وفى كل فكرة لديه والشك حتى فى أنه موجود وأن وجوده يحتاج إلى إثبات، وهذا الشك ليس التردد ولكنه البحث عن اليقين، فعندما وجد ديكارت أنه يفكر انتهى من الشك فى أنه موجود وقال (أنا أفكر إذن أنا موجود) وبعد ذلك انتهى من الشك إلى أن العالم موجود والله موجود وأسس فلسفته على اليقين بأن الله قادر بإرادته على الخلق. فالشك عند ديكارت هو الضمان لعدم الوقوع فى الأخطاء والأوهام الشائعة، الشك هو طريق الوصول إلى الحقيقة، والعاقل لايصدق كل مايقال إلا بعد أن يفحص ويدقق ويبدأ بالشك ويبحث عن الدليل على صحة مايقال.. كذلك فإن طه حسين تأثر بمنهج الناقد الفرنسى الشهير جوستاف لانسون وهو يجمع بين الشك النظر إلى النص الأدبى على أنه أثر من آثار البيئة التى نشأ فيها المؤلف.
وقد حاول طه حسين بعد عودته من فرنسا أن يطبق هذا المنهج فى كتابه (الشعر الجاهلى) وبدأ بالشك لكى يصل إلى اليقين ثار عليه خصومه السياسيون واتهموه بالكفر وطاردوه فى المحاكم والنيابات ونجحوا فى طرده من الجامعة فكان أول أستاذ جامعى يفصل بسبب آرائه.
ومن يتتبع بالتفصيل كيف استطاع طه حسين تكوين عقله وثقافته فسوف يجد أنه عاش حياته كلها يقرأ ويبحث ويتعلم وكأنه يطبق قول سقراط «أنا لا أعلم وأريد أن أتعلم» ولا نه بتكوين شخصية لايعرف الاستسلام لراحة ويؤمن بأن التفوق لايحقق إلابالمجهود الشاق ولذلك كان يقول لنفسه ولطلابه ما قاله الشاعر القديم:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت فى مرادها الأجسام