أحــــــلام إسرائيــل المستحيلـــة

مشكلتنا مع إسرائيل أننا نتحدث إليها من منطلق الواقعية والرغبة في التوصل إلى سلام يعطي للعرب حقوقهم، ونكرر الضغط على فكرتين هما العدل، والاستمرار، ونقول في كل مناسبة أن السلام بدونهما لن يكون سلاماً.. بينما تتحدث إسرائيل من منطلق آخر، يتجاهل الواقع، وينكر العدل، ويريد أن يحقق مجموعة من الأساطير اليهودية القديمة التي تدور كلها حول الانفراد باقوة، وتحطيط كل من حولها، والانفراد بالسيادة والسيطرة، ولديها من التراث اليهودي القديم مئات الأبطال اخياليين، وقصص البطولات الوهمية الخارقة، والوعود الإلهية التي يفسرها الإسرائيلييون على هواهم.. نحن ننطلق من الواقع.. والإسرائيليون يريدون أن يفرضوا على الواقع أساطيرهم الفلكلورية التي تبدو أحلاماً مستحيلة.


نحن نتحدث عن إقامة سلام تتساوى فيه الأطراف وتسود فيه علاقات عادية، طبيعية، وتزول آثار العداوة والحروب بالتدريج، وهم يتحدثون عن فكرتنا عن السلام على أنها "سلام بارد" ويريدون ما هو أكثر.. يريدون تجاوز مرحلة إنهاء العداوة والحروب، ومرحلة بناء الثقة، ومرحلة إزالة الحواجز النفسية والتعاون الاقتصادي والثقافي، ومرحلة إقامة جسور للمصالح المشتركة.. ويريدون أن يقفز العرب كل هذه المراحل قفزة واحدة تجعلهم في مرحلة "الصداقة" و"العلاقات التفضيلية".. يريد الإسرائيليون أن تكون علاقاتهم بكل دولة عربية أقوى وأكثر حرارة من علاقة كل بلد عربي بكل بلد عربي آخر.. ويزيدون على ذلك فرض فكرة أخرى هي أن كل علاقة يمكن أن تربط أي بلد عربي بأي بلد عربي آخر هي في الحقيقة عمل عدائي موجه لإسرائيل ومهدد لأمنها.


ومثل هذه الفكرة حلم مستحيل التحقيق، لأن طبيعة العلاقات العربية، الآن، وعلى المدى الطويل هي علاقات خاصة جداً بين شعوب متحدة في الثقافة والعقلية والمصالح والجذور الحضارية والتاريخية، وهي شعوب توحد بينها عناصر كثيرة أقوى وأعمق من الخلافات التي تظهر على السطح، وقد لا تتحقق الوحدة العربية الآن، أو في المدى القصير، ولكنها سوف تتحقق حتماً، ليس لأن هذه الوحدة حلم قديم، ولكن لأنها تلبية لضرورات أقوى من الاعتبارات السياسية المتغيرة الظاهرة على السطح الآن .


ومن الأفكار التي تمثل نموذجاً آخر للأحلام المستحيلة ما يردده بعض الكتاب الإسرائيليين من أن حقيقة الخلافات بين مصر وإسرائيل هي خلافات حول زعامة المنطقة، وهذا تفكير غريب، لأن إسرائيل التي تريد من العرب أن يقبلوها ككيان سياسي في المنطقة، ويتعاملوا معها بالقبول بعد سنوات الرفض، لا يمكن أن تقفز مرة واحدة من مرحلة "القبول" إلى مرحلة "الزعامة" لأن "الزعامة" لها شروط موضوعية، وليست القوة العسكرية أو التكنولوجية أو حتى القوة الاقتصادية كافية لتجعل من دولة ما زعيمة لمنطقة، ولكن الشرط أن تكون هذه الدولة جزءاً من نسيج المنطقة، وألا تهدد الآخرين، لأن أحداً لا يقبل زعيماً يفرض زعامته بالسلاح والقمع، والدولة التي تحتل أراضي غيرها، ليس من حقها أن تعتبر نفسها مؤهلة للزعامة،.. الزعامة لا تقوم على الاغتصاب، إلا إذا كانت زعامة من نوع آخر لا تتعلق بالدول وبالكيانات السياسية التي تحظى بالاحترام والقبول.


أما زعامة مصر فهي شيء آخر. مصر في المنطقة منذ نشأة التاريخ الإنساني وعلاقاتها مع الدول العربية علاقة الشقيق الذي تربطه به عوامل كثيرة ليست اللغة والثقافة والمصالح فقط، بل الإحساس بالمسئولية تجاه المصالح العربية، والعمل الجاد للمساهمة في تحسين الأوضاع، وتحقيق الأهداف، وحماية الحقوق لكل بلد عربي.. فهل يمكن تصور أن تقوم إسرائيل بهذا الدور.. وإذا لم يكن ذلك ممكنانً فعلى أي أساس يمكن أن تقوم "الزعامة" وبالتالي ما هي المبررات لتصور وجود "منافسة" في كل المجالات.


من الأحلام الإسرائيلية المستحيلة سعيها للضغط على العرب لكي يفتحوا لها قلوبهم، وحدودهم، وجيوبهم، في الوقت الذي تكدس فيه السلاح، وترفض أن تكون دولة ككل دول العالم التي تقبل "الشرعية الدولية" أو "القانون الدولي" أو تلتزم بمبادئ "حقوق الإنسان" إذا كانت تتعلق بالعرب وترفض إعادة الأرض لأصحابها، وتمارس ألواناً من الضغط النفسي والسياسي والاقتصادي على الفلسطينيين يتعارض تماماً مع ما تعلنه من رغبة في السلام أو التطبيع، أو التعاون الإقليمي.


كيف تتصور إسرائيل أن يقبل العرب علاقة تقوم على مثل هذا التناقض.؟


حلم مستحيل آخر تتحدث عنه بعض صحافة إسرائيل وتريد أن تروج له حول تهميش دور مصر سياسياً، والقول بأن موقف مصر من البرنامج النووي الإسرائيلي هو محاولة منها لمقاومة هذا التهميش.


وفكرة تهميش دور مصر السياسي في ذاتها فكرة مستحيلة، لأن هذا الدور لم يمنحه أحد لمصر حتى يستطيع أن يسلبه منها، وهو دور قديم، ومستمر، ونابع من ضرورات الواقع و متطلباته، وقائم على اتفاق وتراضي وقبول العرب، دون أن تطلبه مصر، أو تستطيع التملص منه. فالدور السياسي المصري ليس قراراً صادراً من خارج المنطقة، ولا هو حتى قرار مصري أو عربي، ولكنه استجابة تلقائية لضرورات وطبيعة تكوين المنطقة العربية، وسيبقى ببقاء الدول العربية، ولن يزول إلا بزوالها. وهذا الدور يقوي بقوة الدول العربية، ويضعف بضعفها، ولكنه في كل الأحوال قائم، ودائم، وفاعل، ومؤثر، بعيداً عن الإرادة السياسية لأي قوة من القوى، وعندما تكون هناك قوى سياسية تتمتع بقدر كاف من الذكاء والإدراك لطبيعة المنطقة فإنها تتعامل مع الدور المصري على أنه حقيقة من حقائق الوجود في المنطقة لا مفر ولا مهرب منه .


الأحلام المستحيلة في إسرائيل كثيرة.. ابتداء من القضاء على الوجود الإسلامي في القدس وهدم المسجد الأقصى لإعادة بناء هيكل سليمان بما يتصل بذلك من أساطير.. إلى الحلم بالاستيلاء على أراضي الفلسطينيين والعرب.. إلى حلم إقامة "إسرائيل الكبرى".. إلى حلم قبول "العناق على الحدود المفتوحة والقنابل في ديمونة".. ولكن الأحلام المستحيلة تبقى دائماً مستحيلة، وتفرض الواقعية السياسية طريقاً آخر فيه أحلام في حدود الممكن لكي تكون محتملة التحقيق.


والحلم الممكن الآن أن تصبح إسرائيل دولة من دول منطقة الشرق الأوسط لها ما لغيرها، وعليها ما على غيرها، وأن تتعامل مع الواقع بدلاً من التعامل مع الأحلام المستحيلة، لتدرك مثلاً أن إقامة بنك مشترك يجمع العرب وإسرائيل على مشروعات نقل وصناعات مشتركة في ظل احتلال إسرائيل للأراضي العربية شيء غير منطقي.. وأن مطالبة العرب بإلقاء السلاح وقبول احتفاظ إسرائيل بسلاحها النووي غير منطقي..


وتصور أن مصر يمكن أن تغير موقفها من مساندة حق سوريا في استعادة أرضها المحتلة أيضاً غير منطقي.. وأن مطالبة العرب بالصمت إزاء المؤامرة الكبرى على القدس أمر غير منطقي.


ومن الأحلام المستحيلة أن تطلب إسرائيل من الفلسطينيين أن يعيشوا واقعين تحت ما تفرضه عليهم من إجراءات تسلطية من الحصار، والبطالة، والفقر، وتضييق الخناق على السلطة الفلسطينية بكل وسيلة، ثم يطلبون من الفلسطينيين أن يرضوا بذلك، وألا تنمو فيهم عوامل التطرف والعنف، والمقاومة وما تسميه إسرائيل "الإرهاب" وهو في الحقيقة تعبير عن الانفجار النفسي التلقائي نتيجة الضغوط التي تمارسها إسرائيل والتي تفوق طاقة البشر على الاحتمال.. وربما يكون نموذج حنان عشراوي كافياً للتوضيح، فهي منذ البداية مع السلام وشاركت في إعداد اتفاق غزة وأريحا ودافعت عنه، ولكنها الآن لا تستطيع التسليم بحق إسرائيل في قتل الفلسطينيين وتجويعهم وكرست نفسها للدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني، وهي بالطبع ليست "إرهابية" ولا هي عدو للسلام، ولكنها مثل كل الفلسطينيين يرون أن الحقوق والكرامة الفلسطينية جزء لا يتجزأ من حلم السلام، وإذا أرادت إسرائيل أن تقضي على الإرهاب الفلسطيني فليس هناك سبيل لذلك إلا إيقاف الإرهاب الإسرائيلي.. لأن "الإرهاب" الفلسطيني ليس إلا رد فعل للإرهاب الإسرائيلي.


وأمام إسرائيل في هذه المرحلة فرصة ذهبية لكي تصبح جزاءً من خريطة الشرق الأوسط وعليها أن تقبل ما يفرضه الواقع.. عليها أن تقبل فكرة "العدل".. وفكرة "الشرعية". ومبدأ "حقوق الإنسان".. عليها أن تسعى معنا لتحقيق حلم في حدود الممكن هو "عش ودع غيرك يعيش" و"افعل ما تقبل أن يفعله الآخرون" و"لا تعط لنفسك حقاً تحرمه على الآخرين".. والغريب أن بعض الإسرائيليين يتهمون العرب بأنهم يعيشون على الأحلام ويرفضون التعامل مع الواقع، بينما ينطبق ذلك على الإسرائيليين أكثر. وإذا أراد الإسرائيليون  أن يحققوا الأحلام الممكنة فسوف يجدون لدى العرب قبولاً كاملاً، أما المطالبة بالمستحيل فهو أمر مستحيل..!


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف