أزمــة أحـــزاب الأقليـــة

تعاني أحزاب الأقلية في مصر أزمة من نوع خاص، تظهر أعراضها في العصبية الظاهرة، والمبالغة في النقد إلى حد استباحة الكذب والإدعاء واختلاق وقائع وأحداث لا أساس لها.. أولها أساس صغير وبسيط تجعل منه شيئاً ضخماً ومثيراً لمجرد إيجاد مناسبة للهجوم على السياسات والقرارات والأوضاع القائمة، ولمجرد الظهور بمظهر المعارضة الشرسة التي لا تخشى ولا تتردد والتي تملك من الشجاعة ما يجعلها تتحدى كل شيء وكل إنسان.. حتى القانون..!


وفي بعض صحف المعارضة ما يكشف عن ذلك وعما هو أكثر منه، وهو أن هذه الأحزاب تدرك أنها من الخفة وقلة التأثير إلى الحد الذي يجعلها في الواقع على هامش الحياة السياسية، مجرد تكوينات شكلية هشة.. بلا قواعد.. ولا كوادر.. ولا إطارات فكرية.. ولا أهداف سياسية حقيقية.. ولا وحدة فكر بين قياداتها.. بل بلا فكر أصلاً..! وهذا هو جوهر الأزمة التي تعيشها هذه الأحزاب .


وفي محاولة للخروج من هذه الأزمة تحاول هذه الأحزاب الهامشية أن تبدو أكبر من حجمها الحقيقي بأحد طريقين.. الطريق الأول هو أن تتحالف مع أي قوة تتصور أن لها قوة أو تأثيراً أو قاعدة بأي حجم، بصرف النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف في الآراء والتوجهات والأهداف بينها وبين هذه القوى.. وهذا وضع غريب يجعل بعض الأحزاب تبدو في شكل مضحك.. لأنها أصبحت تضم تيارين أو أكثر لات تجانس بينهما.. وربما بينها اختلاف يصل إلى حد التناقض، والمفروض أن "وحدة الفكر" أساس لا يمكن تصور الحزب بدونه، ومهما يحدث من اختلاف داخل الحزب – وهذا أمر وارد ومشروع – إلا أنه يجب أن يتم في إطار الفلسفة الواحدة والمبادئ الأساسية للحزب التي هي موضع اتفاق، أما أن يضم الحزب أفكاراً متناقضة لا يمكن أن تجتمع معاً، فإن ذلك يفقده خاصيته كحزب، ويجعله مجرد تجمع لفصائل وأفراد لا يجمع بينها إلا الرغبة والمصلحة في معارضة الحكم القائم.. وهذا التجمع يمكن أن يكون في ناد، أو جمعية، أو في ساحة مثل "هايدبارك" أو غير ذلك، ولكن لا يكون في حزب مفروض فيه أنه يمثل تياراً فكرياً، وجماعة أو شريحة من المجتمع لها مصالح واحدة وتسعى للوصول إلى الحكم لكي تنفذ سياساتها وتحقق مصالحها.. سواء كانت مصالحها هي مصالح الأغلبية أو الأقلية.. أما أن يكون الحزب معبراً عن مصالح متعارضة، ومبادئ متناقضة، فهو تجمع انتهازي هش لا يمثل تياراً سياسياً في المجتمع يمكن رصده أو التعويل عليه.


والطريق الثاني الذي تلجأ إليه أحزاب الأقلية الهشة هو الاعتماد على صحيفة الحزب وحدها لتكون بديلا ًعن الحزب ذاته، بحيث لا تستطيع أن تعرف أين كوادر الحزب وقياداته وماذا يفعلون غير أن يكتبوا هذه الصحيفة، والأغرب من ذلك أن بعض الصحف الحزبية في سعيها إلى اجتذاب القراء لم تعد تلتزم بسياسة الحزب، ربما لأنها لا تجد للحزب سياسة ولا مبادئ ولا فلسفة.. فتتحول إلى مجرد صحيفة معارضة لكل شيء، ومن أي منطلق، ولخدمة أي فئة.. وليس في العالم صحف تعبر عن أحزاب قائمة على الحرية الاقتصادية تمجد زعماء الاشتراكية إلا في مصر.. وليس في صحف العالم الحزبية ما يمكن أن نجده عندنا في دفاع عن الإرهاب وهجوم عليه في وقت واحد، أو من تأييد السياسة الاقتصادية للحكومة ومعارضتها في نفس الوقت، أو المطالبة بالإسراع في خطوات دعم السلام في المنطقة وانتقاد هذه الخطوات.


مثل هذا التخبط في العمل السياسي الحزبي يقتضي وقفة من أحزاب الأقلية، لكي تحمي نفسها من نفسها، قبل فوات الوقت.. وقفة تعيد فيها تدارس البديهيات.. ما معنى حزب.. وما الهدف من إصدار صحيفة للحزب.. وهل الحزب القوي هو فقط الذي يستطيع أن يصدر صحيفة قوية في تحريرها وتبويبها.. وهل تقاس قوة الحزب بعدد النسخ المباعة من الصحيفة.. أم أن هناك معايير أخرى.. مثل وجود إطار فكري واضح، وأهداف محددة، ومثل تحديد الفئات التي يعبر الحزب عن مصالحها ويسعى إلى توجيه سلطة التشريع والحكم لدعمها وحمايتها.. ومثل وجود بناء تنظيمي واضح للحزب؟!


الأزمة التي تعيشها أحزاب الأقلية الآن هي أنها لا تعمل على أنها أحزاب.. ولكنها تعمل بمنطق فردي.. أي بمنطق "الشلة".. أو التجمع.. ولذلك فهي تمارس "ألمعارضة" في بعض الأحيان وكأنها "خناقة" سياسية.


أزمة هذه الأحزاب أنها لم تبدأ كأحزاب.. وبالتالي لم تتفرغ لتحديد المشاكل التي ستجعلها ضمن أولويات عملها وتعمل على وضع حلول علمية ومنطقية وواقعية لها.. ولم تستطع أن تقوم بعمل حقيقي لتنظيم وتعبئة جماهير مؤيدة لها تأييداً حقيقياً.. ولم تحاول إتباع الأسلوب الصحيح في العمل السياسي مثل توافر الديمقراطية في اختيار المستويات القيادية، أو جماعية القيادة، أو احترام الأقلية لرأي الأغلبية، أو ممارسة النقد والنقد الذاتي، أو الدفاع عن مصالح الأغلبية الشعبية، كما لم تحاول أن تعايش الناس العاديين في حياتهم، لكي تتلمس مشاكلهم، ولم تهتم بإعداد دراسات تتعرف بها على حجم كل مشكلة واتجاهات الجماهير تجاهها والحلول السلمية لها، والدليل على ذلك أنه لا يوجد في أي حزب جهاز للدراسات وجمع البيانات وإعداد مبادرات جديدة سواء في المجال الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي.. وبالتالي فما يقوله قادة كل حزب، وما تنشره صحيفته ليس إلا اجتهادات شخصية تمثل رأي قائلها ولا تمثل الحزب ككل.. فهل لدى أي حزب من هذه الأحزاب برنامج عمل لتحويل شعاراته إلى واقع حي؟..


تبدو الأزمة أيضاً فيما نلمسه من ظواهر الجمود الفكري لدى بعض هذه الأحزاب، وما يطلق عليه في العمل السياسي "الغوغائية والديماجوجية" بما فيها من استخدام أساليب غير أخلاقية وتقديم معلومات كاذبة، وتهجم على القيادات ذات الكفاءة لمحاولة اكتساب بطولة أمام الجماهير، وهذه كلها أمراض يمكن أن تؤدي إلى "فساد الحياة السياسية" وهذا هو مكمن الخطر الذي يجب التنبه إليه الآن ومنذ البداية.


وسر الاهتمام بأحزاب الأقلية أنها هي "ألمعارضة".. ولكي تكون "المعارضة" قادرة وقائمة بدورها لابد أن يكون بناء أحزابها وأدائها السياسي فقائمين على أسس سليمة.. ولأن استقامة وسلامة الحياة السياسية تقتضي وجود أحزاب أغلبية وأقلية قوية.. ونشيطة.. وتتمتع بالحيوية .. وخالية من الأمراض السياسية القاتلة.. لهذه الأسباب نرى أن هذا هو الوقت المناسب لكي تبدأ أحزاب الأقلية "وقفة مع النفس" من أجل "تصحيح المسار".. ولاشك أن قوة أحزاب الأقلية سيؤدي إلى تحسين أداء حزب الأغلبية وزيادة قوته وفعاليته.. ويجد شباب الحياة السياسية كلها .

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف