الأحـــزاب والانتخابــات (2)

استكمالاً للمقال المنشور بتاريخ 12 مارس الماضي نقول أن الانتخابات القادمة التي ستجري قرب نهاية هذا العام هي أهم انتخابات.. لأن مجلس الشعب القادم سيكون المسئول عن القيام بدوره الوطني والدستوري أثناء دخول مصر القرن الحادي والعشرين بكل التطلعات والآمال والاستعدادات التي قامت بها الدولة لذلك منذ سنوات، وسيكون هو المسئول أيضاً عن بلوغ مرحلة التحول التاريخية التي نعيشها الآن إلى بر السلامة.. الانتقال إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط بما يحقق أهدافنا القومية.. والانتقال إلى مرحلة الانطلاق الاقتصادي.. والانتقال إلى مجتمع الانفتاح الإنتاجي.. والانتقال إلى مجتمع عصري سواء في المدرسة أو المصنع أو المزرعة أو الإدارة.. وهذه مهام خطيرة ومصيرية ويتوقف عليها تحديد مكانة ودور مصر في القرن القادم.


ولكن يلفت النظر أن الإحساس العام لم يتبلور بعد بخطورة هذه الانتخابات بالدرجة الكافية، ومازال الاستعداد لها يجري بنفس العقلية والتفكير، وبنفس الأشخاص، وبنفس الوسائل.. أما الأحزاب فإن استعدادها للانتخابات مازال قائماً على إتباع الأساليب القديمة التي كانت متبعة في الثلاثينيات والأربعينيات.. من استثارة العصبيات.. أو عقد التحالفات الوقتية بين قوى واتجاهات متعارضة بطبيعتها بحكم التكوين والمصلحة.. أو عقد "صفقات" انتخابية.. شيء مقابل شيء.. واعتماد أساسي على العامل الشخصي والإسراف في الوعود وإلهاب التطلعات لدى جميع الفئات.. واللعب بكل الأوراق الممكنة بصرف النظر حتى عن الاعتبارات الأخلاقية أو اعتبارات المصلحة العامة أو الاعتبارات القومية.


ومازال في الوقت متسع لكي تراجع الأحزاب موقفها، وأعتقد بأن البداية يجب أن تكون بلقاء بين قيادات الأحزاب لكي تتفق على الإطار العام، الأخلاقي، والسياسي، الذي يجب أن تلتزم به جميع الأحزاب، لكي تكون هذه الانتخابات فرصة لتحقيق تقدم ونضج سياسي في البلد، وليس العكس، ولكي تكون الانتخابات ونتائجها لصالح القوى الوطنية، مهما يكن انتماؤها الحزبي.. وليس العكس، ولكي تظل هذه الانتخابات محكومة بضوابط ذاتية تجعلها فرصة لإدارة حوار عام مفتوح في البلد كله.. في كل مكان.. وفي كل موضوع.. وعلى كل مستوى.. لكي يساعد ذلك في النهاية على إنضاج رأي عام مستنير حول القضايا الجوهرية، ويدفع المواطنين إلى المشاركة بمعناها الواسع.. المشاركة التي تخرج الغالبية الصامتة من حالة الصمت.. وتخرج الفئة السلبية عن سلبياتها.. وتحدد أمام الشباب الطريق السليم الذي يوصله إلى أهدافه المشروعة ويسمح له بفرصة عادلة في العمل العام بالرأي والجهد.


مثل هذا الاجتماع ليس مقصوداً منه توحيد جهود الأحزاب حول الموضوعات التي ستجري حولها الدعايات الانتخابية .. ولا تذويب الفوارق بين الأحزاب.. ولا عقد تحالفات بين بعض الأحزاب.. ولا توزيع الدوائر.. ولكن المقصود به هو إجراء حوار نزيه ومخلص لوجه الوطن حول مسألة واحدة هي: أن نتفق على كيف نختلف.. فالاختلاف بين الأحزاب أمر قائم، وضروري، ويجب أن يستمر.. ولكن كيف نحمي هذا الاختلاف من أن يتحول إلى معارك غير أخلاقية.. تستخدم فيه أسلحة غير أخلاقية.. ويستثمر بطريقة غير أخلاقية.. ولأهداف غير أخلاقية.. وكيف نحمي هذا الاختلاف من "الانتهازية الحزبية".. وكيف نحميه من أن يتحول إلى خلافات شخصية ثم ينقلب إلى معركة لنهش الأعراض وهتك كرامة الناس.. وكيف نحمي الشباب من أن يقع فريسة للاستغلال في مثل هذه المعارك غير الأخلاقية .


البداية الصحيحة للانتخابات، منذ الآن، هي وضع إطار عام أخلاقي.. يحدد المبادئ والقيم التي تجعل المعركة الانتخابية مناسبة لصالح الوطن وليست "خناقة" سياسية تستباح فيها الرحمات.. وترتكب المحظورات.. وتشوه فيها الحقائق.. وتكال فيها الاتهامات جزافاً دون مراعاة للحقيقة والضمير والمصلحة القومية..


صحيح أن المعركة الانتخابية القادمة ستكون فاصلة بالنسبة للأحزاب القائمة.. وسوف يتحدد فيها ما هو الحزب الذي تعطيه الجماهير ثقتها.. وما هي الأحزاب التي يمكن أن تبقى في الساحة بقدر ما لها من أنصار ومؤيدين.. وما هي الأحزاب التي تمثل زوائد لا قيمة لها.. ولا تأثير. ولا فاعلية. ولا قبول من المواطنين.


ونتيجة الانتخابات القادمة بالقطع ستؤدي تلقائياً إلى استئصال هذه "الزوائد الحزبية". لأنه ليس هناك قرار أقوى وأصدق من قرار الجماهير بالإبقاء أو الإلغاء لهذا الحزب أو ذاك.. وإذا كان النظام السياسي في تطبيقه لمبدأ التعددية يسمح بقيام أحزاب كثيرة ليس لها قواعد شعبية، فإن الانتخابات هي المناسبة القومية التي تتم فيها عملية "الانتخاب الطبيعي" بحيث يكون البقاء للأصلح وليس العكس، وهذا هو ما يدعو الأحزاب التي لها قواعد شعبية إلى العمل بشكل مختلف.. يعتمد أساساً على طرح قضايا سياسية.. وحلول للمشاكل.. وبدائل للسياسات التي تختلف معها.


فأحزاب المعارضة حتى الآن لم تحدد إلا ما نرفضه.. وتعرف ما لا تريده.. ولكنها لا تقدم سياسات متكاملة في كل ميدان من الميادين.. بينما المفروض أن الأحزاب بيوت خبرة سياسية وفنية.. والانتخابات هي المناسبة لا لتحطيم كل ما هو قائم.. وتشويه كل ما تم إنجازه بل لتقديم رؤية جديدة ومختلفة للموضوعات الأساسية التي تتعلق بالمستقبل.. وإبداء آراء إيجابية ومتكاملة.. ومشروعات للعمل مدروسة وقابلة للتنفيذ .


ومشكلة أحزاب الأقلية أنها تعمل وفي يقينها أنها سوف تظل أحزاب أقلية، ولذلك فهي لم تعد نفسها إلا لدور "المعارض المشاغب" الذي يحاول إثبات الوجود عن طريق الصوت العالي.. والمخالفة لكل شيء وهذا موقف يمكن فهمه في مرحلة "الطفولة الحزبية".. وفي مرحلة "المراهقة السياسية" ولكن لا يمكن تصوره في مرحلة النضج السياسي التي نأمل أن تساعد أحزاب الأقلية نفسها على الوصول إليها.


ومسئولية حزب الأغلبية أكبر من غيره. في أن يعطي القدوة، والمثل، في الممارسة السياسية النظيفة والموضوعية، واختيار وجوه نظيفة ومحترمة من الناس ولها تاريخ معروف، ووجوه جديدة واعدة أثبتت مقدرة على العمل السياسي والشعبي.


وفي بلد مازالت فيه الأمية سائدة بين أكثر من نصف سكانه فإن الطليعة المستنيرة عليها واجب، لابد من القيام به هو أن يكون له دور الحارس للقيم الأخلاقية السليمة في الممارسات الحزبية.. وإيقاظ الوعي العام بأهمية هذه الانتخابات.. ليس لكي ينجح مرشح معين ويدخل مجلس الشعب ويتمتع بالحصانة وتوابعها. ولكن لكي تكون لها سلطة تشريعية قوية تستطيع أن تقوم بدورها في قيادة العمل الوطني في عالم جديد.. هو عالم القرن الحادي والعشرين.. وإذا لم يشعر المثقفون بهذه المسئولية ويتحملوا نصيبهم الأكبر منها منذ الآن. فمن الذي سيقوم بذلك ؟


.



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف