بداية عربية جديدة (1)

من حسن الحظ أن يكون الاحتفال بمرور خمسين عاماً على إنشاء الجامعة العربية بداية لإحياء الأمل في يقظة عربية شاملة.. وفرصة لطرح مشروع إنقاذ عربي متكامل لإنقاذ الحاضر والمستقبل معاً.. بعد خطاب الرئيس مبارك الذي غير التوقعات وحول المزاج العربي العام.. من شعور مسيطر باليأس.. وعدم الجدوى والإحساس بأن كل الطرق مسدودة.. إلى تفاؤل بقدرة العرب على التحرك على المسارات الثمانية التي أشار إليها الرئيس والتي تمثل "المشروع العربي" الذي يجب أن تتبناه كل الدول العربية، وتسعى إلى تحويل كل سطر فيه إلى عمل وواقع لأنه قد يكون فرصة العرب الأخيرة للاحتفاظ بموقع قدم في قطار القرن الحادي والعشرين الذي يوشك على الانطلاق .


وأهمية هذا "المشروع العربي" أنه لم يأت من فراغ ولكنه جاء بعد معاناة ومكابدة لكل الآمال العربية الضائعة، وكل الآلام العربية التي تراكمت في السنوات الأخيرة وهو حصاد خبرة العمل والتعامل مع الواقع العربي الحزين بصورته القاتمة الحاضرة..


وبعد سنوات من المحاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. ولاستعادة روح المبادرة العربية والإقاء على قدر من الثقة بالنفس لا يمكن للعرب أن يظلوا واقفين على الإقدام بغيرها.


جاء هذا المشروع أيضاً من القائد الذي سبق أن حذر وأنذر أكثر من مرة في لحظات فاصلة، ولم يجد آذاناً صاغية فكانت النتائج وخيمة، وحدث كل ما حذر منه وأنذر.. وهو الآن لا يكتفي بدور النذير، ولكنه يقوم أيضاً بدور البشير فيطرح أفكاراً وتصورات وحلولاً للمشاكل المستعصية يمكن أن ترضى كل الأطراف، وتفتح الطريق المسدود أمام العرب لكي يتحركوا ويتجمعوا من جديد ولكن على أساس من الثقة والاطمئنان وعلى أرضية مشتركة من الأمن المتبادل ..


وإذا كان "المشروع العربي" الجديد يعترف بالواقع العربي المر ويبدأ منه ولا يتجاهله ولا يقفز عليه.. ولا يتجاوزه إلا بشروط موضوعية محسوبة فإنه يضع المستقبل في حسابه أولاً وأخيراً.. في وقت لم تعد لدى العرب فيه رؤية متكاملة واحدة أو متقاربة بل وليس لديهم رؤى متعددة غير متضاربة ولكن هناك تهويمات.. وتمنيات وأحلاماً سعيدة ودعوات تلهج بها الألسنة.. فهذه المبادرة هي البرنامج العملي الوحيد المطروح الآن على العرب.. وليس من المصلحة أن يمر دون أن يجد آذاناً صاغية وقلوباً واعية وإرادات مستعدة للعمل ..


وبداية هذا المشروع هي إعادة الجامعة العربية إلى الدور الفاعل والمؤثر والمحرك بدلاً من الشلل والجمود الذي أصابها وليس المقصود بالطبع تحريك أجهزة وإدارات الجامعة العربية، فهي تعمل بموظفيها وخبرائها بصورة جيدة ولكن المقصود أن تظهر إرادة العمل العربي في الجامعة العربية من الدول الأعضاء لأن حياة الجامعة العربية وموتها وتجميدها رهن بإرادة الدول العربية مجتمعة.. ولا يكفي أن تحرص دولة أو عدة دول على إحياء هذه الجامعة لكي يتحقق ذلك.. ولكن لابد من توافر إرادة "الكل" ودون استثناء وسوف يأتي وقف في المستقبل سوف تحاسب فيه الأجيال الجديدة تاريخياً قادة العرب الآن على ما قدموا للعمل العربي المشترك.. ولن ينجو من هذا الحساب أي قائد أو زعيم أو حكومة.. لأن الأجيال الجديدة من العرب لن تكون مستسلمة للواقع.. ولن ترضى بالقليل.. ولن تغفر التفريط أو التساهل، أو التلكؤ.. وحكم التاريخ دائماً قاس على كل من يتجاهل مصالح الشعوب.. ولا يمكن أن تكون هناك مصلحة لشعب عربي أو للشعوب العربية مجتمعة.. إلا في إطار التعاون .


وها هو الإطار السياسي للتعاون في صيغة جديدة مطروح في هذه المبادرة التي أعلنها الرئيس مبارك في كلمته في افتتاح دورة الجامعة العربية التي واكبت الاحتفال باليوبيل الذهبي.. تعتمد على تحديد أهداف عربية جديدة أكثر واقعية وأقل جموحاً مع الخيال.. وتقوم على التدرج بدلاً من محاولات إجهاض الفترة الكبيرة للوحدة بقفزات جامحة وعاطفية وغير منطقية ولا محسوبة .


وأبرز ما في المشروع العربي الجديد الذي طرحه الرئيس مبارك هو أن يكون "الأمن القومي العربي" هو الهدف والغاية.. ولا شك أن هذا الهدف هو الحد الأدنى للحفاظ على الذات القومية وعلى الذات القطرية في نفس الوقت وإذا لم يتجمع العرب لحماية أنفسهم فمتى يمكن أن يتجمعوا إذن.. وإذا لم يكن "الخطر" سبباً كافياً لليقظة.. فأي سبب يمكن أن يوقظهم بعده؟ وإذا لم تكن "الحياة" أو "الوجود" دافعاً للانتباه فماذا سيبقى بعدهما يستحق الانتباه؟ وأعتقد أن الكلمات التي استخدمها الرئيس مبارك كافية لتحريك الضمائر.. لأنه بالفعل بدون ضمان "الأمن القومي" يكون وجود الأمة نفسه في الميزان.. وتظهر احتمالات تنذر بتفككها واهتزاز مقوماته الأساسية.. ولا يكون هناك معنى للحديث عن دور لها في المستقبل .


أما المحور الثقافي والحضاري في هذا المشروع القومي فهو الذي يحتاج إلى قوفة طويلة بالتحليل من قادة الفكر والرأي في العالم العربي، لأنهم المخاطبون به، والمسئولون عن تنفيذه، ولأن النهضة الثقافية الشاملة التي يشير إليها الرئيس مبارك ليست مجرد إحياء الاهتمام بالثقافة العربية.. أو محو الأمية .. ولكن هناك ما هو أبعد وأعمق.. وهو تكوين وعي حضاري وثقافي جديد.. بحيث يكون هذا الوعي هو قوة الحراسة للقيم وللمبادئ والأخلاق والتراث.. وأهم من ذلك أن يكون هذا الوعي هو قوة الحراسة للإسلام.. التي تحميه من التشويه والابتذال والسطحية.. ومن إدخال ما ليس فيه من وسائل العنف والقسوة والبربرية في التفكير والتعامل والسلوك باعتبار أن الإسلام هو المحرك الأساسي للعقل العربي، وهو صانع الحضارة والثقافة العربية وهو قوة الدفع التي جعلت من العرب أمة في الماضي والقادر على أن يجعلهم أمة واحدة في المستقبل .


إن تحليل المشروع العربي الجديد يحتاج دون شك إلى وقفات متأنية عند كل محور من المحاور الثمانية التي حددها الرئيس مبارك، ولكن يكفي الآن أن نشير إلى أن البدايات الجديدة تدل على سريان روح جديدة.. روح للأمل وللعمل وإذا أدركنا قيمة وأهمية هذه الروح فسوف ننظر إلى المشروع العربي الجديد بعيون جديدة عيون تتطلع إلى المستقبل ولا تتوقف كثيراً عند ما في الحاضر من سلبيات وأخطاء لأنها رغم فداحتها يمكن تجاوزها.


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف