دور مصر في الصراع العربي الإسرائيلي

جاءت القمة الرباعية في القاهرة بين زعماء مصر وفلسطين والأردن وإسرائيل في وقت دقيق وحرج. بعد أن توقف المباحثات الفلسطينية الإسرائيلية عقب حادثة الانفجار شمال تل أبيب، وبعد ما نسب إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين ووزير خارجيته شيمون بيرس من تصريحات استفزازية عن احتمالات نشوب حرب بين إسرائيل والعرب على المدى البعيد، وبعد النشاط المتزايد للحكومة الإسرائيلية في بناء مزيد من المستوطنات الإسرائيلية، وإعلانها عن برنامج لإنشاء ثلاثين ألف مسكن لليهود في القدس الشرقية.


جاءت هذه القمة بمبادرة مصرية لكي تلتقي الأطراف وجهاً لوجه، وتوضع الخلافات كلها على مائدة مباحثات صريحة، بعد أن ارتضت الأطراف جميعها منذ البداية أن يكون الحوار والتفاوض طريقهما لحل المشاكل والخلافات إلى أن يتم الاتفاق على صيغة تحقق السلام بمعناه الحقيقي الذي يتضمن أسباب الدوام ويقوم على تحقيق مصالح الجميع بتوازن لا يختل.. بأن يكون محققاً لمصلحة طرف على حساب طرف آخر. وأثبت الرئيس حسني مبارك بدعوته لهذه القمة أن الحكمة التي يقود بها عملية السلام هي الضمان لاستمرار ومواصلة البحث عن الصيغة المناسبة لتحقيق الأهداف العربية، كما أثبت أنه الزعيم المؤثر القادر على معالجة الأزمات التي تطرأ على مسيرة السلام، بأن يجمع المختلفين تحت مظلة واحدة، بضمان الثقة في دوره الشخصي ودور مصر الكبير.


وكانت هذه القمة دليلاً جديداً على أن القاهرة هي السند القوى للحقوق العربية عموماً، وللحقوق العربية عموماً، وللحقوق الفلسطينية على وجه الخصوص، وهذا المعنى هو الذي تكرر على لسان وفدي المباحثات الفلسطينية – والأردنية، وكان أحد أعضاء الوفد الفلسطيني معبراً بدقة عن هذا المعنى حين قال لي في حديث جانبي: إن مصر هي القلعة التي يحتمي فيها العرب وقت الشدة، وهي السند الذي يطمئن العرب تماماً إلى أنهم يستطيعون أن يسندوا ظهورهم عليها، فتحمي ظهورهم من السهام التي توجه إليهم من الآخرين.. ثم هي القوة التاريخية والحضارية.. وأنها القوة العربية التي تعمل من أجل العرب، وتعطي، وتبذل الجهد، وليس لها مطالب خاصة بها تريد أن تحققها لنفسها وكل ما تطالب به هو لتحقيق مصالح العرب.. كما أن مصر تثبت كل يوم عمق إدراكها بأن كل قوة تضاف إلى أي دولة عربية هي قوة مضافة إلى قوتها. وكل حق يعود إلى طرف عربي هو دعم لها، ورصيد للعرب في المستقبل الذي لا ترى مصر له صورة إلا صورة التكامل والتضامن.. وكل من يشكك في دور مصر العربي الريادي فهو إما جاهل أو مجنون.. أو مأجور..!


باختصار كانت هذه القمة ضرورية في هذا الوقت لتحريك عملية السلام، ولكي يواصل الفلسطينيون نضالهم على مائدة المفاوضات من أجل الحصول على حقوقهم.. كان لابد من تنشيط اجتماعات اللجنة الفلسطينية الإسرائيلية لاستكمال بحث الجوانب المعلقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وكان لابد من إيجاد صيغة للعمل لمتابعة بحث جميع الجوانب المتعلقة بتحقيق السلام وعودة النازحين من أبناء فلسطين إلى ديارهم، وكذلك لإجراء مباحثات جدية حول موضوع المستوطنات وإجراء الانتخابات في الأراضي الفلسطينية، وتوسيع سلطة الحكم الذاتي، وإعادة انتشار القوات الفلسطينية.


كان تحريك الموقف السياسي في اتجاه السلام العادل هو الموضوع الأول، كما كانت مبادرة الرئيس مبارك بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل من الموضوعات التي تناولتها المباحثات، وقد أبدت إسرائيل ما يوحي باستعدادها للتحرك فيه، وقد أصبح الموضوع على جدول أعمال كل مباحثات، وأصبح الموقف المصري واضحاً وثابتاً وغير قابل للتغيير أو خاضع للتأثير أو الضغوط وما تبديه إسرائيل من خطوات إيجابية في اتجاهه هو موضوع بحث مصري مع خطوات أخرى..


لم تكن وجهات النظر متطابقة في هذه القمة، ولكن يكفي أنها نجحت في إيجاد جو من الرغبة وفي العمل والتحرك من أجل تحقيق السلام.. ومادام السلام هو الخيار الذي لم يعد أمام جميع الأطراف خيار غيره، فلابد أن يستمر العمل للوصول إليه، مع إدراك بأن معرك السلام تحتاج إلى شجاعة تفوق الشجاعة المطلوبة للحرب، ومقدرة على المواجهة أكبر وأسلحة أكثر، وخطط أدق، وضبط للأعصاب قد يفوق قدرة البعض حتى لا تفلت تحت أي ضغط أو مناورة، خاصة أن في إسرائيل قى لا تريد السلام، وتعمل في السر والعلن على إفساد كل خطوة يمكن أن تؤدي إليه، والدليل على ذلك أنه كلما اقتربت المباحثات الفلسطينية الإسرائيلية من نقطة توصل إلى إعطاء جزء من الحقوق الفلسطينية، تقع حادثة تصلح ذريعة لإيقاف المباحثات، وتجميد تنفيذ الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي بكل بنوده، وتستغله هذه القوى الإسرائيلية في إعادة الاسطوانة القديمة عن الإرهاب الفلسطيني، وعن مخاطر السلام على الأمن الإسرائيلي، وعن أهمية احتلال الأراضي، وفرض السيطرة، وتقييد حرية الفلسطينيين لكي يأمن الإسرائيليون على أنفسهم.


هذه القوة الإسرائيلية ليست قوى هامشية، ولكنها قوى فعالة ومؤثرة وضاغطة على الحكومة الإسرائيلية، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات ومع التهديد الذي يلوح بإمكان عودة كتلة الليكود إلى الحكم ببرنامج أكثر تشدداً وتعنتاً من برنامج حكومتي بيجن وشامير. وهذه القوى الإسرائيلية لها أجنحة من المتطرفين، وجماعات الهوس الديني، وأصحاب الفكر الغريب الذي لا يزال يحمل الصبغة العنصرية ويريد أن يفرض فكرة "إسرائيل الكبرى" وهي فكرة رومانسية ثبت فشلها وعدم إمكان تحقيقها سواء على المدى القريب أو البعيد وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.


هذه القوى لا تريد السلام، ولا تريد أي خطوة يمكن أن تؤدي إليه ولا تريد أن تترك للسلطة الفلسطينية فرصة لالتقاط الأنفاس لتثبت دعائم الكيان الفلسطيني الوليد الذي يمر بمرحلة حرجة يحتاج فيها إلى رعاية كبيرة لكي يبقى على قيد الحياة، وينمو، ويصل إلى اكتمال نموه، وهو ظهور الدولة الفلسطينية ككيان سياسي مستقل مكتمل الأركان.. وهذه الدولة التي كانت حلماً وأغنية على ألسنة الشعراء بدأت خطوتها الأولى على أرض فلسطين، وكل يوم يمر يضيف حجراً جديداً في بناء هذه الدولة الحلم.


كان أول هدف لمصر في هذه القمة أن تشجع القوى التي تؤمن بالسلام في إسرائيل في مواجهة القوى التي تعمل على تخريب عملية إلى سلام، وتقريب وجهات النظر المتعارضة بأن تفتح بينها الحوار من جديد من أجل الوصول إلى سلام يتوافر فيه العدل والدوام.


وقد نجحت مصر في ذلك دون شك.


ومازال الطريق طويلاً.. والجهد المطلوب لا يقدر عليه إلا صانعو التاريخ.


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف