جولة المفتى الأمريكية (3)

في كل مكان ذهبنا إليه مع فضيلة المفتي في أمريكا كان المسلمون هناك يتحدثون بمرارة عن فيلم تليفزيوني أنتجته شبكة التليفزيون العامة التي تبث إرسالها في كل الولايات وعنوان الفيلم: "الجهاد .. الحرب المقدسة" وكان محور الأحاديث والصور التي عرفها تدور حول فكرة واحدة هي أن مفهوم "الجهاد" في الإسلام هو إعلان الحرب لقتل غير المسلمين في كل مكان باعتبارهم "الكفار" ويستطرد الفيلم للحديث عن طبيعة الإسلام العدوانية وكراهيته للمخالفين له في العقيدة واستحلاله لأموال وأرواح وممتلكات الآخرين دون اعتبار لإنسانيتهم.


وكان من نتيجة عرض هذا الفيلم أكثر من مرة أن تعرض المسلمون في أمريكا لموجة شريرة من الكراهية ووجدوا أنفسهم فجأة معزولين وعليهم أن يدافعوا عن أنفسهم دون أن يجدوا آذاناً صاغية.


وفي لقاءات فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي مفتي مصر مع قادة المسلمين في المساجد والمراكز الإسلامية وهي تزيد على 114 مركزاً ومسجداً، كانوا يتساءلون أين الدول الإسلامية ولماذا لا تقوم بجهد منظم لعرض حقيقة الإسلام باعتباره دين التسامح الذي يحترم الديانات الأخرى ويأمر المسلمين بحماية المخالفين لهم في العقيدة "لهم مالنا وعليهم ما علينا" ولماذا لا توفر الدول الإسلامية خاصة مصر إعداداً من الأئمة المعتدلين يجيدون اللغة الإنجليزية ويقيمون في الولايات المتحدة لفترات طويلة ليشرحوا الإسلام للأمريكيين ا لمسلمين منهم وغير المسلمين بعد أن تزايد الاهتمام بالإسلام في أمريكا وبعد أن كثر عدد الأمريكيين الذين اعتنقوا هذا الدين الذي يبدو شديد الجاذبية لدى البعض ويخشاه البعض الآخر نتيجة الدعايات المضادة المنظمة .


وكان الجميع يتساءلون لماذا لا تصدر مطبوعات مبسطة باللغة الإنجليزية تتناسب مع العقلية الأمريكية لتشرح ما هو الإسلام وهناك مفاهيم أصبحت تثير الرعب في نفوس الأمريكيين من هذا الدين مثل مفهوم الجهاد الذي أصبح مساوياً في الذهن الأمريكي العام لمفهوم العدوان والهمجية وإباحة القتل!


وكانوا يتساءلون أيضاً هل تعجز الدول الإسلامية مجتمعة عن إنتاج مجموعة أفلام لشبكات التليفزيون الأمريكية تنصف الإسلام ومن السهل إعداد هذه الأفلام إذا قامت بها شركات أمريكية تعرف أساليب الفهم والتفاهم مع العقلية الأمريكية بدلاً من المواد الإعلامية الساذجة التي تعدها بعض الدول الإسلامية وتعكس فيها مفاهيم وأساليب تفكير تبدو غريبة وشاذة أو على الأقل غير مفهومة بالنسبة للأمريكيين .


وحين التقى فضيلة المفتي مع الكاردينال اوكون رئيس الكنيسة الكاثوليكية في نيويورك وأقوى المرشحين لخلافة البابا يوحنا بولس الثالث بابا روما قال له الكاردينال اوكون أن هناك حواراً إسلامياً مسيحياً مع الكاثوليك منذ أربع سنوات يمكن أن يفتح الطريق للتفاهم والتعاون الإنساني بين الأديان المختلفة، وييسر عرض الإسلام على حقيقته.. وقال أيضاً: أن زيارة فضيلة المفتي لأمريكا جاءت في توقيت مهم جداً لأن الإسلام في هذه الفترة بالذات يحتاج إلى تحسين الصورة خصوصاً في أمريكا ولذلك أرجو أن تتكرر زيارة المفتي لأمريكا لأني أعرفه وسبق أن التقيت به في القاهرة وأعرف أنه يمثل الإسلام الحقيقي باعتداله واحترامه لسائر الأديان وسائر البشر.


نفس المعنى تقريباً جاء في بعض عبارات الترحيب التي قالها نائب الرئيس الأمريكي آل جور عندما استقبل فضيلة المفتي والدكتور صموئيل حبيب رئيس الطائفة الإنجيلية في مصر وتكرر النداء على لسان هانك براون عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية كلورادو وهو جمهوري يرأس إحدى اللجان في مجلس الشيوخ المختصة بالشرق الأوسط وسبق أن زار مصر عدة مرات وقال للمفتي أعرف أن التسامح في الدين الإسلامي يسبق المسيحية فقد كان المسيحيون البروتستانت يدفعون الجزية للكنيسة الإنجليزية منذ 25 عاماً فقط بينما يتعامل المسلمون مع المخالفين لهم في المذهب أو العقيدة على قدم المساواة مما يدل على أن الإسلام دين يحترم إنسانية الإنسان ويجعل للتعاون بين البشر قيمة كبرى ولكن أدعوكم لأن تقولوا ذلك للأمريكيين جميعاً.


وهكذا بدت الصورة بعد 12 يوماً من اللقاءات مع مجموعات وحشود من رجال الدين.. اللاهوت المسلمين والمسيحيين والأمريكيين وغير الأمريكيين أو الولايات المتحدة فيها فراغ كبير بالنسبة للإسلام يملؤه أعداء الإسلام مستغلين الأحداث الإرهابية التي تحدث في أي مكان في العالم ليصوروا المسلمين على أنهم عصابات تستحل الدماء والأعراض والأموال.. وأن الإسلام دين القتل والجريمة.. وأن الجماعات الإسلامية ليست إلا تنظيمات أقرب إلى المافيا غير أنها تستخدم أقنعة الدين وفي ذلك ظلم للإسلام وللمسلمين ليس بعده ظلم.


وفي الولايات المتحدة الآن اهتمام كبير بالحوار بين الأديان وهناك جهود كبيرة تبذل للحوار بين المذاهب المسيحية المختلفة وحوارات أخرى كثيرة بين المسيحية واليهودية، ولكن المسلمين لم يشاركوا بالقدر الكافي في هذه الحوارات وليس المقصود من هذه الحوارات التوصل إلى أفكار لتوحيد العقائد المختلفة، أو إقناع أصحاب دين بالتنازل عن بعض مواقفهم وعقائدهم ولكن المقصود أن تطرح الأفكار والمفاهيم بكل صراحة، وتناقش في إطار علمي للتوصل إلى مرحلة يفهم فيها أصحاب كل دين حقائق الديانات الأخرى على حقيقتها دون تشويه أو تحريف ولكي يعرف الجميع ما هي نقاط الاتفاق فيما بينهم، وما هي نقاط الخلاف بحيث تكون نقاط الاتفاق هي الأساس لإقامة علاقات تعاون بين أصحاب الديانات المختلفة وتترك نقاط الخلاف وفقاً للمبدأ الإسلامي الذي أنزله الله في كتابه: "الله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" لأن البشر لا يملكون محاكمة الأديان أو أصحابها ولكن يحكم بينهم خالقهم الذي أنزل الأديان ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة.


ولقد كشفت جولة المفتي في أمريكا أن الدول الإسلامية مقصرة في حق الإسلام في أمرين: أولهما أنها لم تنظم حملات لعرض الإسلام بصورته الصحيحة على الشعب الأمريكي وعلى الشعوب الغربية عموماً، وبالتالي فإن لهؤلاء عذرهم إذا ظلموا الإسلام والمسلمين، والناس أعداء ما جهلوا والأمر الثاني: أن الدول الإسلامية، وعلى رأسها الأزهر، لم تشارك حتى الآن كما ينبغي في الحوارات بين الأديان التي تعقد في كل أنحاء العالم، ولها مراكز عديدة متخصصة وأقسام في الجامعات وكليات اللاهوت في أمريكا كما أن لها جمعيات ومنظمات تفوق الحصر.. وليس لدينا مركز واحد يعد الدراسات والأبحاث التي يمكن أن تكون الأرضية الفكرية في الدفاع عن الإسلام .


وهذه قضايا تستحق الاهتمام والبدء في العمل .


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف