جولة المفتى الأمريكية (1)

يزور الولايات المتحدة هذه الأيام فضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتي الديار المصرية مع القس الدكتور صموئيل حبيب رئيس الطائفة الإنجيلية في مصر، بدعوة من الكنيسة المشيخية في الولايات المتحدة ويتضمن برنامج الزيارة الحافل إلقاء سلسلة من المحاضرات وعقد عشرات الندوات واللقاءات مع قيادات دينية مسيحية وإسلامية ومع رجال الإعلام والصحافة ومع طوائف مختلفة من الشباب والشيوخ وتطرح هذه الزيارة التي أتيح لي أن أشارك فيها مجموعة من القضايا تتصل بمسئوليتنا عن تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام وعن علاقات المسيحيين والمسلمين في مصر وعن قيمة العمل الإسلامي في الولايات المتحدة في هذه الفترة بالذات التي يتعرض فيها الإسلام والمسلمون لحملة تشويه غريبة.


في مسجد أنيق في مدينة نيوكاسيل في ولاية بنسلفانيا تجمع المسلمون من أهل المنطقة وجاء بعضهم من مناطق تبعد أكثر من 200 كيلو لكي يروا المفتي ويلتقوا به ويسألوه ويستمعوا إليه وكانت أسئلتهم هي ذات الأسئلة التي تشغل المسلمين في القاهرة حول الحلال والحرام في المعاملات والطعام وظهر من الأسئلة مدى تعطش هؤلاء المسلمين لمعرفة شعائر وتعاليم الإسلام وبعضهم من المصريين وأكثرهم من بلاد عربية مختلفة أو من الأمريكيين الذين اعتنقوا الإسلام، وبعضهم من الشباب الذي ولد في المهجر.


وظهر في هذه اللقاء، وفي غيره أن المصريين والعرب المهاجرين إلى أمريكا يواجهون الآن مشاكل ويتطلعون إلى مصر لكي تساعدهم في حلها من هذه المشاكل مثلاً أن بناءهم لا يجدون فرصة لتعليم اللغة العربية، وبالتالي فإن الصلة الروحية والثقافية التي تربط آباءهم بوطنهم الأم مهددة بالانقطاع، وهؤلاء الأبناء محتاجون إلى مدرسين ومناهج وكتب خاصة لتعليم اللغة العربية لمن هم في مثل ظروفهم. وأعتقد أن وزارات التعليم والخارجية والمصريين في الخارج لابد أن تبدأ في الاهتمام بهذه المشكلة قبل أن يذوب أبناء الجيل الثاني من المصريين ويفقدوا الخيط الذي يربطهم بوطنهم الأم. وتضيع علينا فرصة أن يكون لنا تجمع يحمل أفكارنا وصوتنا وثقافتنا إلى المجتمع الأمريكي وهو مجتمع مفتوح أمام جميع الثقافات.


طرح هذا اللقاء أيضاً قضية احتياج هؤلاء المهاجرين إلى من يرشدهم في أمور دينهم لأنهم – على البعد – حريصون على أن تظل مصادرهم في معرفة الأصول والحقائق عن الإسلام من مصادر معتدلة وتساءلوا: ألا تستطيع الدولة أن توفر عدداً من الأئمة المؤهلين للتعامل مع عقلية المجتمع الأمريكي وظروفه الحضارية والاجتماعية، والقادرين على التفاهم باللغة الإنجليزية لكي يتولوا هذه المهمة، ومن الممكن أن يشارك المهاجرون في التكلفة عن طيب خاطر.


وفي مسجد ينجستون بولاية أوهايو كان في انتظار المفتي مجموعة من السيدات والرجال يتلهفون على رؤيته ويقولون له: لقد تأخر مجيئك كثيراً، والمفروض أن تكون بيننا لتتجدد صلتنا بالوطن ونشعر أن مصر تفكر فينا وتهتم بشئوننا، وكانت أسئلتهم أيضاً دليلاً جديداً على أهمية وجود رجل الدين في أمريكا لكي يصحح كثيراً من المفاهيم التي استشرت في غياب صوت الإسلام المعتدل وعدم وصوله إليهم.


كذلك كان الأمر عندما زار المفتي مع الدكتور صموئيل حبيب كنيسة نيو ولنجتون والتقوا بالقيادات المسيحية في المنطقة واكتشفنا أن لمصر رصيداً كبيراً من الحب من المصريين المهاجرين ومن الأمريكيين الذين عاشوا في مصر أو زاروها مرات متعددة، وأصبحوا مرتبطين بها بصورة ما ويمثلون رصيداً لم نحاول أن نستثمره حتى الآن.


وفي كلية وستمنتسر حضر المفتي والدكتور حبيب احتفالاً كبيراً أقيم لهما بعد أن قررت الكلية منحهما درجة الدكتوراه الفخرية في صنع السلام، وهي درجة تمنح لأول مرة في الولايات المتحدة، وذلك اقتضى الأمر صدور قرار من حاكم ولاية بنسلفانيا بالموافقة على إنشاء هذه الدرجة ومنحها لهما.


وفي لقاء علمي مهيب جمع الأساتذة والطلبة وحشداً كبيراً من كبار المسئولين تحدث المفتي والدكتور حبيب واستقبلت كلمة المفتي بالتصفيق وهو يعلن أن المصريين يؤمنون بأن الله تعالى أوجد الناس من أب واحد ومن أم واحدة. وأمرهم بأن يعيشوا متحابين، وأنهم يحرصون – كمسلمين ومسيحيين – على نشر روح الإخاء وأن المسلمين والمسيحيين في مصر مساكنهم متجاورة ومزارعهم ومتاجرهم متلاصقة وتجمعهم مصالح مشتركة وأن كل من يحمل الجنسية المصرية له من الحقوق وعليه من الواجبات مثل ما لغيره لا فرق بين مسلم أو مسيحي أو يهودي أو غير ذلك، فلكل إنسان عقيدته، ولا إكراه في الدين لأن الإكراه لا يأتي بمؤمنين صادقين، ولكن يأتي بمنافقين كاذبين.


وكان المفتي مقنعاً للجميع وهو يشرح نظر الإسلام إلى غير المسلمين حين قال: لقد سمعتم عن بعض الأحداث التي قام بها بعض الذين لا يفهمون الأديان السماوية فهماً سليماً والذين امتدت أيديهم بالتخريب إلى بعض المنشآت كما امتدت بالعدوان على المسلمين وعلى المسيحيين وعلى بعض السياح وأني باسم الدين الإسلامي أحيطكم بأن الدين الإسلامي بريء من أفعال هؤلاء المعتدين، ولو أن هؤلاء الجاهلين فهموا دين الإسلام فهماً سليماً، لعرفوا أن غير المسلم دمه مصون كدم المسلم تماماً وأن أمواله مصونة كأموال المسلم، وكما أن غير المسلم يحترم عقيدة المسلم فإن على المسلم أيضاً أن يحترم عقيدة غيره ولا يسيء إليها بأي صورة كما أمره الله.


كذلك جذب الاهتمام الدكتور صموئيل حبيب وهو يتحدث عن صورة التعاون بين المسلمين والمسيحيين في مصر في العمل الاجتماعي وتنمية القرية وتدريب الشباب من خلال أنشطة الهيئة الإنجيلية للخدمات الاجتماعية بالتعاون مع الهيئات غير الحكومية الأخرى.


ورغم أن تقييم وتحليل نتائج هذه الزيارة يحتاج إلى تفصيل لعرض الأفكار والقضايا التي تناولتها، ويمكن تأجيل ذلك إلى أن تنتهي الجولة لكن الانطباع السريع أنها زيارة ناجحة شاركت في نجاحها السفارة المصرية، وأكدت اللقاءات أن الرأي العام الأمريكي يريد أن يعرف المزيد عن الإسلام وعن مصر، ونخطئ كثيراً إذا لم تنظم مئات الزيارات في مختلف المستويات والمجالات بشرط أن تكون زيارات منظمة تنظيماً جيداً كهذه الزيارة وسوف تكون النتائج بأكثر مما نتصور.


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف