درس في الديمقراطية

عندما كان الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في طريقه إلى إسرائيل لحضور جنازة رئيس وزرائها إسحاق رابين، تحدث إلى الصحفيين المرافقين له في الطائرة، مشيراً إلى أن الديمقراطية في إسرائيل هي السبب وراء تهيئة المناخ لنمو العنف، والعدوانية، وتقوية التطرف والأفكار المنحرفة، وقال في تعليقه على ذلك: "في مجتمع حر يكون لحرية التعبير عواقبها، وقد تدفع هذه الحرية بعض الناس إلى الاعتداء على الحرية".


وقال الرئيس الأمريكي أيضاً: "إن نجاح أية ديمقراطية يتوقف على التعامل مع الحرية بطريقة مسئولة". وعندما وصل الحديث إلى الديمقراطية الأمريكية، وهي التي يضرب بها المثل على وصولها إلى آخر المدى، وتعبيرها عن قمة الليبرالية قال الرئيس الأمريكي: "لقد اعتدنا الاحتفاظ بالممارسات الديمقراطية في حدود معينة، لأن ذلك يمثل التحدي لكل الديمقراطيات في العالم".


وقد يكون في هذه العبارات ما يخالف دعوة المتحمسين إلى إطلاق الحرية بغير حدود، والقائلين بأن أية ضوابط توضع كسياج لحماية الحرية هي في حقيقتها قيود عليها تحد منها، وتكبل ممارستها. فقد لخص الرئيس الأمريكي في عباراته القصيرة وهو يتحدث إلى صفوة من الصحفيين الأمريكيين حراس الديمقراطية والليبرالية والحريات الأمريكية، ليلخص تجربة الليبرالية ودروسها في قلعة الليبرالية .


وبعد أن كان يقال أن إسرائيل هي واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وجزيرة الحريات، انقلبت الصحافة الإسرائيلية في يوم وليلة بعد مقتل رابين وظهور حجم تيار الإرهاب والتطرف الإسرائيلي، وأصبحوا يتحدثون عن ضرورة وضع ضوابط وحدود لممارسة الحرية بحيث يمكن حماية المجتمع الإسرائيلي من الانهيار نتيجة انفلات الحرية، وتجاوزات الفكر المنحرف والحركات المضادة لمصالح إسرائيل التي تعطي نفسها الحق في فرض آرائها بالقوة وبالسلاح مهما تعارضت مع المصلحة العليا للوطن ومهما أدت به إلى التفكك أو إلى تعطيل مسيرته لتحقيق هذه المصلحة.


والديمقراطية، وحرية الرأي والتفكير، من المقدسات التي لا يجوز المساس بها في المجتمعات المتقدمة وبخاصة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ولكن بقاء هذه القيم ارتبط بتسليم الجميع، وباتفاق مبدئي، على أن هناك ثوابت تمثل مصالح الوطن العليا لا يجوز المساس بها ولا الخلاف عليها، فهي موضع تسليم واتفاق منذ البداية، ولم تعد موضوعاً لحديث أو مناقشة أو مساومة أو ابتزاز من أي نوع، وبعد هذه الثوابت فإن كل شيء قابل للاختلاف والمناقشة.


وفي كل مجتمع هناك فئتان: فئة لا تؤمن أصلاً بالديمقراطية، ولديها توجهات وأفكار فاشستية، يسعون إلى فرض سيطرتهم على المجتمع لكي يمارسوا فلسفة القمع التي يؤمنون بها، ولكي يفرضوا على الجميع رأياً واحداً باسم الوطنية أو باسم الشريعة، وهؤلاء لا يظهرون في البداية عداواتهم للديمقراطية، ولكنهم يظهرون العكس، أنهم أكثر المدافعين عنها،لأنهم يسعون إلى اتخاذها وسيلة توصلهم إلى غايتهم، لأن الحرية تعطيهم الفرصة كاملة لعرض وجهات نظرهم المنحرفة دون أن يمنعهم أحد وإلا كان معتدياً على قانون الحرية، وهم يدسون سمومهم الفكرية، ويكسبون أنصاراً على شاكلتهم، حتى إذا وصلوا إلى مواقع التأثير في المنابر، والصحافة، والأحزاب، والجامعات، والمدارس، اتخذوا الحرية وسيلة لإرهاب معارضيهم، خاصة إذا أشهروا سلاح التكفير، وإباحة دماء من يخالفهم.


هذا ما يحدث في إسرائيل الآن بعد ظهور جماعات كثيرة من المتطرفين المسلحين يصعب حصرهم استغلوا أسوأ استغلال رغبة قادة إسرائيل في أن يظهروا بلادهم واحة للديمقراطية في المنطقة، وهذا ما حدث في الحزب النازي، فقد جاء هتلر إلى الحكم في بلد كانت فيه حرية، وكان حزبه يستغل هذه الحرية ويبدو أشد المدافعين عنها ثم ظهرت حقيقته حين وصل إلى الحكم.


والفئة الثانية التي تؤمن بالحرية بحق وبإخلاص، وليست لديها نوايا خفية للانقضاض، يحدث في داخلها هي الأخرى انقسام.. فريق يتعامل مع مفهوم الديمقراطية والحرية برومانسية مبالغ فيها فيرى أنها غاية في ذاتها، ومذهب "الحرية للحرية" يعني ألا تكون هناك حدود للممارسة، ويظنون أن أي حدود ليست إلا قيوداً.. حتى حريات الآخرين.. وأعراضهم.. وحتى مصالح الوطن العليا.. هؤلاء يجدون أنفسهم بعد وقت طال أو قصر مع الفئة الأولى.. ويتحولون إلى أعداء للحرية من حيث لا يشعرون..


ويصبحون خطراً على الحرية وهم يظنون أنهم الحراس الذين لا يفرطون.


وهذه الفئة الثانية هي التي تدرك عن وعي أن الديمقراطية منهج حياة، ومناخ سياسي عام، وأن الحرية وسيلة لغاية أهم وأخطر هي حماية الوطن، وتحقيق مصالحه العليا، والوصول إلى أفضل الطرق لتطوير أسلوب الحياة، وتحسين ظروف معيشة المواطنين، والدفاع عن قيم الطهارة، والإيجابية، وتنقية الحياة العامة من الفساد والمفسدين بالقانون والشرعية.


هؤلاء يمارسون الحرية ويرتضون الحدود التي تحميها. حدود تفصل بين الحرية والفوضى، وتفرق بين الفكر والتحريض، وتحرص على أن تظل في دائرة النقد دون الخروج منها إلى دائرة السب والقذف والإهانة.


أهم من كل ذلك ألا تتحول الحرية إلى حرية تشكيل عصابات وتدريبها وتمويلها.. وحرية قيام هذه العصابات بالقتل والتخريب لفرض فكرها على المجتمع، فهذه ليست حرية.. ولكنها غوغائية.. والدفاع عنها ليس دفاعاً عن الحرية.. ولكنه دفاع عن الحق في ارتكاب جريمة الخيانة العظمى.


وعند هذا الحد ليست هناك حرية لأحد.!


وهذا هو حصاد التجربة الديمقراطية في وطن الليبرالية الأكبر وفي كل دول الديمقراطيات القديمة والحديثة على السواء.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف