جامعـــــة المستقبـــــل

تسير عملية تطوير التعليم الابتدائي والإعدادي في الاتجاه السليم، وتحقق إنجازات ملموسة سواء في مجال إقامة المدارس الجديدة، أو تطوير المناهج، أو إعداد المعلمين، أو تحديث الإدارة، أو إدخال أساليب حديثة في تكنولوجيا التعليم، ورغم أن إتمام هذه العملية يحتاج إلى سنوات نظراً لضخامة ميراث التخلف فإن سير العمل في الاتجاه الصحيح سوف يحقق أهدافه كاملة، وكل تقدم إنساني يتم في زمن ويحتاج إلى وقت ولا يمكن تصوره بغير ذلك.


لكن التعليم الجامعي عندنا مازال محتاجاً إلى لحظة إطلاق الشرارة بعد أن تكشفت العلاقة الأكيدة بين الجامعة والتقدم الاقتصادي كما تشير الحقائق في الدول الغنية والفقيرة، فإن نسبة التعليم العالي في كندا 64% وفي أمريكا 63% وفي فنلندا 62%، وفي اليابان 53%، وفي مصر 19.5%، وفي إسرائيل 40%، وهذا يعني أننا نحتاج إلى زيادة الكم كما نحتاج إلى تغيير الكيف في التعليم العالي.


ومما يدعو للتفاؤل أن وزير التعليم قرر تشكيل لجنة برئاسة الدكتور سليمان حزين لوضع تصور متكامل لتطوير التعليم الجامعي في مصر، كما أن وزير التعليم حدد معالم هذا التطوير بشكل عام وطرح أفكاره حولها للنقاش العام في محاضرة ألقاها منذ أيام في جامعة القاهرة، وأعتقد أن هذه الأفكار يمكن أن يدور حولها حوار بين الأساتذة والخبراء والمفكرين والمثقفين عامة ليساعدوا على بلورتها، ويتكامل ذلك مع عمل اللجنة العليا التي توشك أن تبدأ عملها لتتلاقي بذلك نتائج انشغالنا لأكثر من ثلاثين عاماً في بحث المسائل التفصيلية فلم نضع الاستراتيجيات والنظم الأساسية ولم نتجه إلى دراسة المستقبليات إلا أخيراً.


وإذا كانت مهمة هذه اللجنة العليا – كما حددها الدكتور حسين كامل بهاء الدين في حديثه – هي تقويم الأداء الجامعي، ووضع الأسس التي يقوم عليها التطوير ودراسة الخدمات التي تقدمها الجامعات الآن، وما ينبغي أن تكون عليه والمنشآت الجامعية ومدى كفايتها وما هو مطلوب لاستكمالها ومدى الاستغلال الأمثل للطاقات والإمكانات الموجودة في كل جامعة، ونوعية الأستاذ الجامعي ومدى إسهامه لخدمة المجتمع والصناعة والاقتصاد، ومدى صلاحية نظام الامتحانات الحالي بالمقارنة بالأنظمة المطبقة في الجامعات الكبرى.


إذا كانت هذه هي مهمة اللجنة فهي مهمة صعبة تحتاج إلى توفير جهاز من الفنيين لمساعدتها وتوفير المعلومات لها عن أوضاع الجامعات عندنا وفي العالم المتقدم حتى تستطيع اختصار الوقت.


ومنذ البداية فإن هناك اتفاقاً على ما حدده الوزير من مجالات العلاقة بين الجامعة والمجتمع في ظل التطوير.


المجال الأول: أن تقدم الكليات خدمات متخصصة للشركات والوزارات والهيئات، كليات الهندسة تستطيع أن تقدم خدمات فنية على مستوى عال في الإنشاءات والأبنية والصيانة وابتكار حلول لمشكلات المصانع المختلفة، وكليات التجارة تستطيع أن تقدم خدمات لكل الجهات في المحاسبة ودراسات الجدوى وإصلاح الهياكل المالية للشركات المتعثرة، وكليات العلوم تستطيع أن تقدم خدمات في التحليل وتطوير بعض الصناعات والمشاركة في الأبحاث التطبيقية في مجالات عديدة.


المجال الثاني: أن ينزل أساتذة الجامعات إلى مواقع الإنتاج لأن الاحتكاك والخبرة المباشرة مصدران للتعلم لا يستغني عنهما الأساتذة الكبار وهذا التفاعل يقضي على مشكلة قائمة منذ سنوات طويلة وهي أن وحدات الإنتاج لا تعرف ماذا تقدمه للجامعة من خدمات، كما أن أساتذة الجامعة لا يعرفون المشاكل التطبيقية في الإنتاج وبقاء الجامعة كمؤسسة تعليمية فقط منعزلة عن مشاكل الواقع العملي هو الذي أوجد ما نشكو منه من عدم الثقة بين المسئولين في مواقع الإنتاج والجامعات كمؤسسات للبحث العلمي قادرة على إيجاد الحلول الصحيحة للمشكلات القائمة.


والجديد الذي طرحه وزير التعليم هو دعوته إلى أن تنشأ في كل جامعة وحدات لتسويق الخدمات الجامعية وفقاً لما تقرر في المجلس الأعلى للجامعات وهذا يعني أن الجامعة نفسها سوف تتحول  إلى وحدة إنتاجية بالإضافة إلى كونها وحدة خدمات وسوف يمكنها ذلك من إيجاد موارد ذاتية إضافية تساعدها على تنفيذ مشروعات جديدة تقف صعوبات التمويل حائلاً دون تنفيذها.


ورؤية وزير التعليم للدور الجديد للجامعة سوف يحتاج منه إلى معركة جديدة لأن الناس أسرى ما ألفوا وسوف يجد – كما هي العادة – مقاومة ممن ألفوا الاستسلام للعمل الأسهل، الذين عاشوا سنوات طويلة في ظل مفهوم لأساتذة الجامعات على أنهم مجرد مدرسين وكل ما هو مطلوب من كل أستاذ أن يلقي محاضرة أو محاضرتين في الأسبوع، ويبحث لنفسه عن انتداب في الجامعات الأخرى كي يحصل على أجره مضاعفاً ثلاث أو أربع مرات دون أن يبذل مجهوداً حقيقياً، لكن الدور الجديد يحتاج إلى عمل ومجهود وبحث وتفكير قد لا يكون الجميع جاهزين أو مستعدين أو قادرين عليه.. وهذه المشكلة يقابلها وجود قاعدة من الأساتذة الأكفاء الذين يتمتعون بالنشاط والقدرة على الابتكار ومازالوا راغبين في بذل الجهد من أجل تلاميذهم وإعداد أجيال جديدة من المتعلمين الأكفاء منهم ومن أجل المجتمع أيضاً، وهذه هي القاعدة العريضة التي يمكن الاعتماد عليها والاستماع إلى وجهات نظرها.


وأخشى أن يكون طموح وزير التعليم في تطوير التعليم الجامعي بداية لمعركة جديدة، تضاف إلى معاركه الكثيرة الحالية، التي يخوضها بقوة من أجل تطوير التعليم العام، وانفتحت أمامه بها ميادين قتال عديدة، مع مافيا الدروس الخصوصية، وبيروقراطية أجهزة الوزارة التي ورثت القدرة على وضع العراقيل أمام كل عمل نافع ببراعة شديدة، بالإضافة إلى معركته مع الإرهاب السافر الذي يهدده كل يوم، ومع أنصار وأعوان الإرهاب الذين تسللوا إلى داخل المدارس وأجهزة الوزارة كما تكشف أخيراً، كما تسللوا إلى بعض المواقع في الإعلام وغيره.


لذلك أقول أن معركة تطوير التعليم الجامعي سوف تحتاج إلى حشد قوى المثقفين المصريين أولاً، داخل وخارج الجامعات، لكي يشارك المجتمع الواعي في عملية التطوير، ويشارك أيضاً في دعم الوزير في معركته، ويحاصر القوى الرافضة بكل تغيير وكل تطوير، من أنصار الجمود والدعوة إلى التخلف، وأصحاب فلسفة العودة إلى العصور الوسطى.


ولا أظن أن المثقفين المصريين يحتاجون إلى من يوجه إليهم الدعوة للقيام بهذا الواجب من أجل المستقبل.


والمستقبل ليس مسئولية الوزير ورؤساء الجامعات فقط.. ولكنه مسئولية المجتمع المصري كله.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف