الحــوار الإســلامي المسيحي

يزور القاهرة الآن كبير أساقفة كانتربري، وهو شخصية دينية لها دورها الكبير في العالم المسيحي، وفي مجلس الكنائس العالمي، وهو رأس الكنيسة البريطانية التي لا يزال لها تأثير كبير في تشكيل الرأي العام. والقضية التي يثيرها كبير الأساقفة في هذه الزيارة هي التأكيد على أهمية الحوار بين الأديان، بهدف إيجاد مساحة للفهم والتفاهم بين أهل الأديان السماوية الثلاثة، وهو يشجع كل جهد يمكن أن يؤدي إلى نجاح الحوار بين الإسلام والمسيحية بالذات، بعد أن تعرض الإسلام إلى حملة تشويه في الغرب مقصودة ومتعمدة، أساءت إليه كدين، وإلى أهله أيضاً.


ولقد ساعد على نجاح حملة تشويه صورة الإسلام في الغرب، أن الإسلام لا ينتمي إلى أوروبا، بل أن الأوروبيون ينظرون إليه كدين غريب، وقد يرتبط في أذهانهم بالغزو والاحتلال العثماني لبعض أجزاء من أوروبا، كما أن الإسلام لا ينتمي إلى الدول الصناعية الكبرى والمتقدمة مثل اليابان، ولكنه ينتمي إلى دول مازال أكثرها متخلفاً اقتصادياً وحضارياً، ولم يعرف الغرب الإسلام إلا من خلال نماذج سيئة لحكام أساءوا إليه بسلوكهم السفيه ونظامهم الديكتاتوري وفكرهم الجامد.. فكان شاه إيران.. ثم الخميني.. وغيره.. وزاد الطين بلة أن بعض المسلمين يتحدثون كثيراً عن "الجهاد" على أنه العداء للغرب والعدوان على غير المسلمين، واغتصاب أموالهم وأعراضهم، مما ربط في الذهن الغربي بين الإسلام والهمجية.


وبين الحين والحين يظهر في الغرب، أو في العالم الإسلامي، من يصورون الإسلام على أنه مصدر إزعاج وخطر للغرب، بل وأنه يمثل تهديداً للحضارة الغربية، ويبدو في بعض الكتابات الغربية عدم الفهم وبالتالي عدم الاحترام للحضارة التي تنتمي جذورها إلى الإسلام، وبعض هذه الكتابات تصور العالم الإسلامي على أنه أرض الهمجية والعداء للحضارة والتقدم وأرض البترول.. وبالنسبة للمواطن الأوروبي العادي فإنه لا يستطيع أن يفرق بين السلوك الإسلامي في هذا العصر بما فيه من تشوش وتداخل عناصر غريبة عليه، وبين الإسلام كعقيدة تحترم الأديان جميعاً، وترسى قواعد التقدم واحترام حقوق الإنسان.


وبصرف النظر عن العلاقة الوثيقة التي كانت بين أكثر المستشرقين الذين كتبوا عن الإسلام وعرضوا مبادئه للعالم غير الإسلامي، وبين الإدارات الاستعمارية وأجهزة المخابرات والجماعات السرية المعادية للإسلام، وما يعرفه الجميع عن الدور الذي قام به البحث العلمي غير المحايد وغير النزيه الذي قام به كثير من المستشرقين وبين غزو الغرب للعالم الإسلامي واحتلاله.. والمثال الذي يضرب دائماً هو مثال المستشرق الهولندي المقدم سي سنوك هيرجرونج الذي استغل الثقة التي أعطاها له المسلمون في إندونيسيا في تخطيط وتنفيذ الحرب الهولندية الوحشية ضد المسلمين في إندونيسيا وسومرة. وأمثلة أخرى كثيرة عن المستشرقين لهم بحوث تبدو في ظاهرها علمية ومحايدة وموضوعية عن الإسلام، بينما هم في حقيقتهم مستشارون أو موظفون في أجهزة أو شركات متعددة الجنسيات أو ينفذون مخططات موضوعة للإساءة إلى صورة الإسلام.


والمرارة التي يشعر بها المسلمون لا حدود لها كلما تابعوا ما ينشر ويقال عن الإسلام في الولايات المتحدة، أو بريطانيا، أو فرنسا، أو ألمانيا، أو غيرها.. وما يلاقيه المسلمون في دول الغرب من تفرقة وتمييز في المعاملة، ومن كتابات تردد أن الإسلام هو الخطر القادم الذي يهدد الحضارة الغربية، وأن الصراع الكبير الذي سيفرض على العالم الغربي هو صراع ضد الإسلام، دفاعاً عن الحضارة والتقدم والعلم وإنجازات العقل التي حققها الغرب من موجات البربرية الجديدة التي ترى أن تدمير هذه الحضارة جهاد في سبيل الله.. فالمسلمون الآن في نظر بعض الكتابات الغربية هم التتار الجدد!!


وعندما قام فضيلة المفتي بجولته في الولايات المتحدة في يناير من هذا العام، كانت بداية كل حوار معه اعترافاً من الأمريكيين بأن صورة الإسلام تتعرض للتشويه في الإعلام "التليفزيون والصحافة" وفي السينما والأدب والأعمال الثقافية بشكل عام.. حتى نائب الرئيس الأمريكي آل جور قال ذلك صراحة لفضيلة المفتي.. وقاله أعضاء في الكونجرس وقادة للكنائس الإنجيلية ورجال فكر وأساتذة جامعات.


وفي الغرب الآن محاولات لتبرير هذا التشويه للإسلام بأنه نتيجة طبيعية للإرهاب الذي ظهر وانتشر في العالم الإسلامي، رافعاً شعارات إسلامية، ومعلناً أنه الممثل الحقيقي والوحيد للإسلام، وما يقوم به هذا الإرهاب من عمليات قتل وسرقة وتفجير، وما يبدو في سلوك المؤمنين به من غلظة وهمجية.. وحتى الآن لم تتضح في الذهن الغربي الحقيقة، وهي أن هذا الإرهاب لا علاقة له بالإسلام، إلا أن أعضاء هذه العصابات من المسلمين، ويتخذون غطاء دينياً مزيفاً، وأمثالهم موجود في الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وبريطانيا.. جماعات تعلن أن مبادئها دينية وهي في حقيقتها معادية للأديان، ولها أهداف إجرامية، مثل كل جماعات وعصابات الجريمة في كل أنحاء العالم.


وبالرغم من عمق الشعور بالمرارة لدينا مما نراه ونقرأه مما يحدث ويكتب في الغرب، إلا أننا نرحب بزيارة كبير أساقفة بريطانيا، ونرحب بدعوته للحوار، والحمد لله أن لدينا في جامعة الأزهر مركزاً علمياً متخصصاً لهذا الحوار، وله علاقات مع عدد من المراكز المماثلة المسيحية في بريطانيا وغيرها. وسوف يجد كبير الأساقفة أثناء لقائه بالبابا شنودة والقس صموئيل حبيب رئيس الطائفة الإنجيلية ومع قيادات الكنيسة الإنجيليكانية البريطانية في مصر أن الإسلام في جوهره وفي سلوك أبنائه الحقيقيين دين للسماحة، والأخوة بين البشر جميعاً، كما أنه دين لبناء حضارة إنسانية متكاملة، وإقامة عالم يسوده السلام، وأن أيدي المسلمين دائماً ممدودة للتعاون على البر والتقوى، وليس على الإثم والعدوان، كما أمرهم الله.


وإن كان موضوع الحوار الإسلامي – المسيحي يحتاج إلى دراسات متعمقة، إلا أن البدء فيه ضروري الآن لكيلا يزداد اللبس والتشويه للإسلام، وكل ما هو مطلوب أن يشارك في هذا الحوار من ليس لديهم انحياز أو عداء مسبق للإسلام، والذين يشاركون في الحوار بعقول مفتوحة .


ولسنا بحاجة إلى القول بأن هدف هذا الحوار ليس تحويل أهل دين إلى دين آخر.. أو إقناعهم بالدخول فيه، ولكن هدفه أن يفهم أهل دين الدين الآخر. وينظرون إليه باحترام.. ويحترمون مساحات الاتفاق والاختلاف.. فالاتفاق هو أرضية للتعاون.. أما الاختلافات.. فإن الله و حده – وليس أحد من البشر – هو الذي يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون .

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف