أخطــاء المؤرخـــين

يبدو أن شباب هذا الجيل لن تتاح له الفرصة لمعرفة حقائق ثورة 23 يوليو بعيداً عن الزيف والتشويه. فرغم مرور 43 عاماً على الثورة فإن نار الحقد في قلوب أعدائها لم تهدأ.. ومبالغات أنصارها في تبرير أخطائها لم تنقطع.. ولم يظهر حتى الآن المؤرخ المحايد والمنصف الذي يكتب تاريخ الثورة متكاملاً وبموضوعية، ودون تحيز لها أو ضدها.


وثورة 23 يوليو – مثل كل الثورات الكبرى في التاريخ – من حق المؤرخين أن يختلفوا في تفسير بعض مواقفها وأعمالها، ولكن الاختلاف شيء والاختلاق شيء آخر.. وما نجده في سيل الكتب التي صدرت عن الثورة وقادتها فيها من الاختلاق والتزييف والتزوير الكثير، وفيها من التحامل وروح العداء ما يزيد على الحد المعقول، حتى يبدو الأمر وكأن هناك حلفاً مقدساً رسالته الكبرى تشويه هذه الثورة تاريخياً، والقضاء عليها في نفوس المصريين وإزالة آثارها في المجتمع المصري، بل والعمل على تغيير اتجاهات الأجيال الجديدة نحوها، بحيث تصبح بالنسبة لهم مصدر عار وخجل وهي في حقيقتها مصدر فخر واعتزاز قومي كبير.


إن معظم ما كتب عن الثورة حتى الآن ليس تاريخاً بالمعنى العلمي الدقيق، ولكنه انطباعات وآراء شخصية، أو كتابات في الدعاية السياسية معها أو ضدها، وبعض هذه الكتابات ليست إلا جزءاً من حملة منظمة للثأر منها ممن مستهم هذه الثورة في مصالحهم أو أوضاعهم التي كانت مميزة في ظل النظام الملكي السابق وفقدوها بعد الثورة.. ومن الغريب أن نجد بعد كل هذه السنين من لا يخجل من إظهار الحنين إلى عصر الملكية والإقطاع والفساد السياسي والأخلاقي الذي كان سائداً قبل الثورة.. وغريب أيضاً أن يكون حكم بعض من يعتبرون أنفسهم مؤرخين على الثورة أنها كانت كلها مجموعة أخطاء وانحرافات وأنها لم تفعل لمصر شيئاً يمكن أن يوضع في كفة الحسنات، وهذا في حد ذاته دليل على أن الثورة مازالت حية.. وأن تأثيرها في الوجدان المصري مازال بنفس القوة تقريباً التي كانت عليها منذ 43 عاماً، وبالتالي فإن العداء لها مازال أيضاً بنفس القوة والضراوة.. وهذه في النهاية شهادة لثورة يوليو على أنها ضربت بجذورها في أعماق المجتمع، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الكيان والوجدان والوجود المصري.. ولكن تبقى مشكلة غياب النظرة التاريخية العادلة والمنصفة والتي ينبغي ألا تستمر أكثر من ذلك لما فيه من خطورة على العقل وعلى الشخصية المصرية.


والمؤرخ الذي يستحق اسم المؤرخ هو قاض.. يحكم بالعدل.. ويحكم من واقع الوثائق والأحداث ولا يحكم بعواطفه ومشاعره، أو بانطباعاته، أو بأفكاره الجاهزة المسبقة، أو برغبته في أن يضع علمه وجهده في خدمة فئة أو حزب أو تيار معين.. فإذا كان كذلك لم يعد مؤرخاً.. وتحول إلى مجرد كاتب سياسي يقول ما يعتقد.. ويطرح وجهة نظر قابلة للنقد والمراجعة.. وتحتمل التجريح والطعن.. لأنه ليس هناك أسوأ من المؤرخ المنحاز الذي يرتدي مسوح القاضي وهو في الحقيقة أحد الخصوم في القضية.


وطوال السنوات الماضية تكررت الدعوة إلى كتابة تاريخ الثورة، واشتدت النداءات باستكمال أعمال لجنة كتابة التاريخ التي شكلت منذ سنوات بعيدة وبدأت عملها ثم توقفت بعد فترة وجيزة، فإذا كان استئناف هذا العمل غير ممكن لسبب أو لآخر، فمن الممكن أن تجعل إحدى الجامعات ضمن أهدافها تاريخ الثورة.. من خلال مشروع متكامل لرسائل الماجستير والدكتوراه.. وبذلك نضمن تفرغ عدد كبير من شباب الباحثين تحت إشراف أساتذة متخصصين يعملون بمنهج علمي سليم لجمع الوثائق والشهادات وتصنيفها وتحليلها، وتقديم اجتهادات يمكن أن نطمئن إلى موضوعيتها في تفسير الأحداث، وتقييم الأعمال الأساسية للثورة، ووضع قادتها في موضعهم الصحيح من التاريخ، وتحقيق الاتهامات الكثيرة التي يلقي بها البعض جزافاً بغير دليل أو قرينة.. وإذا قامت إحدى الجامعات بهذا المشروع الكبير فسوف تصبح لدينا حصيلة من الدراسات الجادة المنهجية تصلح أساساً للبحث لمن يأتي بعد ذلك من المؤرخين.. ذلك لأن "الإنصاف التاريخي" لثورة يوليو لن يتحقق الآن.. طالماً أن أعداءها أحياء.. وأحقادهم نحوها مستعرة.. ورغبتهم في تصفية حساباتهم معها قائمة.. وطالماً أن كثيراً من الوثائق المتعلقة بأحداثها الكبرى مازالت بعيدة عن متناول أيدي الباحثين..


ويقودنا ذلك إلى ضرورة الإفراج عن الوثائق التي لم تعد هناك مبررات لحظر نشرها تتعلق بالأمن القومي، أو تمس سياسات ومصالح الدولة، وهذه المسألة لم يتخذ فيها إجراء حتى الآن، وليست لدينا سياسة واضحة بشأن الإفراج عن الوثائق.. وكل ما لدينا قانون يحظر نشر الوثائق.. ولكن ليس لدينا نظام يحدد كيفية رفع الحظر عن هذه الوثائق وإتاحة الإطلاع عليها بعد فترة زمنية معينة، وبعد زوال أسباب فرض الحظر عليها.. ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى ما هو متبع بالنسبة لنشر الوثائق البريطانية، والأمريكية فالنظام فيهما معروف، والحقائق هناك دائماً متاحة ولو بعد حين.


ويدفعني إلى الإلحاح في هذا الموضوع أن كثيراً من الصحفيين والكتاب وأساتذة الجامعات من مختلف دول العالم، حين يزرون القاهرة، يسألون عن الكتب والمراجع التي يمكن أن تفيدهم في معرفة أحداث ثورة يوليو بالتفصيل، برواية وبرؤية مصرية، فلا يجدون شيئاً ذا قيمة باللغة العربية أو بلغة أجنبية، ولا يجدون أمامهم إلا عدداً من الكتب الخفيفة التي لا تمثل غلا مجرد انطباعات سطحية لأصحابها. ومن تأليف غير المتخصصين، أو غير المحايدين. وبالتالي فهي أقرب إلى الكتابات السريعة التي قد يقرأها البعض للسمر وتمضية أوقات الفراغ ولكنها لا تعيش طويلاً، لأنها لا تعتمد على جهد علمي حقيقي.. وليس فيها إلا الهجوم الأعمى، أو الدفاع الأعمى، وهي إما محاولة لتشويه كل شيء، أو لتجميل كل شيء. وتصوير قادة الثورة على أنهم ملائكة أو شياطين.. وليس هناك وسط بين الاثنين.. وكتابة التاريخ مسئولية كبرى لا يقدر عليها إلا ذوو الخبرة والكفاءة والضمير المتجرد من الهوى.


وأعتقد أن ثورة كبرى مثل ثورة 23 يوليو سوف تجد من المؤرخين المحترمين في الأجيال القادمة اهتماماً كبيراً، وسوف يتفرغ لها كثير منهم.. ولكن ما ذنب هذا الجيل لكي يعيش على أخطاء المؤرخين.. أو تقصيرهم.. أو قصور الأدوات والوثائق الذي يدفعهم إلى إصدار أحكام في قضايا لم يفحصوا ملفاتها، ولم يمحصوا أقوال الشهود فيها.. وبعضهم مشكوك في حياده، ومطعون في إنصافه..


من حق أبناء هذا الجيل أن يجدوا القدر الممكن من الحقيقة.. قبل أن تضيع في طوفان الأكاذيب.. وتاريخ أي أمة هو سجل وجودها، ومصدر اعتزازها، وهذا التاريخ دائماً هو مدرسة الوطنية للشباب.. والعبث بالتاريخ شيء خطير.. وترك تاريخ الأمة للعابثين شيء بالغ الخطورة على العقول.. وعلى المستقبل!

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف