مخــزون الطــاقة في مصــر

لفت أنظار المحللين والمعلقين في العالم كله ما حدث في مصر لحظة إعلان نبأ محاولة الاعتداء على الرئيس حسني مبارك، لأن ما حدث كان شيئاً هائلاً، له دلالات بالغة الأهمية، وقد ننظر نحن إلى ما حدث على أنه كان أمراً طبيعياً، ولكن المراقبين من الخارج يرون أنه أمر خاص جداً، لأنه فجر طاقة هائلة في مصر كلها و لم يكن يخطر على بالهم أن مصر يمكن أن تكون مليئة بكل هذه الطاقة الكامنة.


ولو أن مراكز البحث الاجتماعي في مصر عكفت على تحليل ما وراء هذه "الانتفاضة"  فقد يضع أيدينا على المفاتيح الحقيقية لتحريك المجتمع المصري، وتحقيق انصهاره في بوتقة واحدة لتحقيق أهداف محددة هي تحويل المجتمع المصري من مجتمع ينتمي إلى العالم الثالث، إلى مجتمع من مجتمعات العالم الأول، لأن هذا هو مكانه الطبيعي بحكم تاريخه الحضاري، واستمرار بذور التقدم والقوة فيه على مدى قرون متتالية.


إن الروح الغريبة التي ظهرت في كل أنحاء مصر، وكل أفرادها تستحق التأمل. مشاعر حب تفوق الوصف كانت كامنة ومستقرة في الأعماق، انطلقت في لحظة واحدة فوحدت بين المصريين جميعاً على اختلاف فئاتهم وطوائفهم ودياناتهم.. وذابت في هذه اللحظة الخلافات العميقة التي كانت تملأ الساحة السياسية والنقابية قبلها..


وأصبح الجميع كياناً واحداً.. نفس المشاعر والعبارات والمواقف.. بحيث لا يمكن ملاحظة فرق بين حزب في أقصى اليسار وحزب آخر من أقصى اليمين.. وحتى الذين كانوا يتصورون أن لهم مع النظام قضية ونقطة خلاف أصبحت قضيتهم الوحيدة هي المحافظة على النظام ورمزه الكبير.. والذين كان مستحيلاً تصور أن يجتمعوا تحت سف واحد اجتمعوا.. وتصافحوا.. ووقفوا كتفاً إلى كتف ووحدت بينهم روح الوطنية التي استيقظت.. روح الوطنية كانت مارداً خرج من القمقم.. ولذلك أقول إن واجبنا الآن ألا نكتفي باستعادة هذه اللحظة في عقولنا.. ولكن واجبنا أن نعمل على استمرارها، ونستثمرها في بدء مرحلة جديدة من العمل الوطني، يلتقي فيها الجميع على أهداف وطنية عليا، ويجعلون خلافاتهم محصورة في إطار تعدد الاجتهادات حول أنسب الأساليب لتحقيق هذه الأهداف.


واستثمار هذه الروح الجديدة لصالح تطوير وإصلاح ونهضة المجتمع المصري هو واجبنا الأول.. لأن هذه الروح لا تظهر إلا حين يشعر المصريون بأنهم أمام أمر يخص الوطن كله.. ظهرت بقوة في حرب أكتوبر.. وظن ا لبعض أنها اختفت، ثم ظهر خطؤهم لأنها عادت إلى الظهور أكثر قوة عند الإحساس بالخطر الذي كان يمثله الاعتداء على الرئيس  حسني مبارك، وعندما شعر الجميع، دون استثناء، أن هذه لحظة تسمو فوق كل خلاف، وتعلو على كل الأشخاص، وتتجاوز كل الاعتبارات الأخرى.. وهذا سر من أسرار مصر والمصريين التي حافظت على بقاء هذا الوطن آلاف السنين رغم المحن والأزمات والنكسات التي مر بها، والتي كانت كفيلة بالقضاء عليه لو لم تكن هذه القوة كامنة فيه.


هذه القوة – في رأيي – مثل لحظة الانشطار النووي.. تبدو الذرة في الظاهر صغيرة وهادئة ومسكينة، ولكنها في الحقيقة تختزن قوة هائلة لا يمكن تصورها، لا تراها العيون إلا في لحظة انفجار يدوي وتتسع آثاره إلى ما يفوق الخيال.


وأعتقد أن هذه اللحظة – بالنسبة لنا – هي تصديق لقوله تعالى الذي أكده مرتين في كتابه الكريم: "إن مع العسر يسرا".. فلاشك أن اللحظة كانت صعبة علينا جميعاً.. لكنها يمكن أن تكون باب الفرج.. إذا أدركنا ما فيها من إيجابيات لم يكن أعداؤنا يتصورونها.. أو يتوقعونها، أو يريدون حدوثها.


لقد كنا نشكو من الفراغ السياسي الكبير الذي يعيش فيه الشباب خاصة، ويعيش فيه الشارع المصري بشكل عام، ولم تستطع الأحزاب الحالية أن تملأ هذا الفراغ بعمل سياسي حقيقي.. ورأت أن تداري عجزها بتحويل النقد إلى شتائم ومهاترات واتهامات بغير أساس.. وبدلاً من أن تقدم بدائل وأفكاراً جديدة لمواجهة المشاكل المعقدة اكتفت بالخطابة والأساليب البلاغية وتشويه كل عمل يتم دون استثناء، حتى الأعمال التي لا يمكن أن يكون هناك خلاف بين العقلاء على جدواها وأهميتها.. وكنا نشكو أن الأحزاب الحالية تستخدم أساليب عمل حزبي قديم ينتمي إلى النصف الأول من هذا القرن، ولا يصلح لنصفه الثاني، فضلاً عن عدم صلاحيته لقرن جديد يوشك على البداية.. وكنا نشكو من أن الأحزاب تقدم أفكاراً فجة، لا تمثل نتاج جهد علمي منظم ودراسة متأنية، ولكنها تمثل خواطر فردية مرتجلة، قد تصلح لإثارة الناس في اجتماع، ولكنها لا تصلح للتنفيذ. وقد لمست ما كنت أقصده عندما زرت الأحزاب في ألمانيا.. ووجدت أن لكل حزب معهداً للدراسات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.. يجمع المعلومات.. ويتابع أحوال الدول الأخرى في كل القارات.. ويعد الدراسات التفصيلية لكل مشكلة ويقترح بدائل متعددة للحل.. ويعقد حلقات مناقشة.. ويشارك في كل هذا الجهد صفوة من الأساتذة والباحثين والسياسيين من الشيوخ والشباب.. ومن الرجال والسيدات.. ولذلك فإن الأحزاب لا تصرخ.. ولا تكذب.. ولا تلجأ إلى التهويل والادعاء.. ولكنها تتحدث بلغة هادئة وعاقلة وتطرح أفكاراً ناضجة.. تختلف أو تتفق مع توجهات غيرها.. وهذا يسمح بأن يدور الجدل في جو صحي ويحقق صالح المجتمع.


وكنا نشكو من تأخر عملية الإصلاح الديني، لكي تكون حقائق الدين – كما يقول الدكتور إبراهيم شحاتة – قوة للسير إلى الأمام، ومواجهة للذين يرفعون الشعارات الدينية ويتصرفون بما يسيء إلى الدين نفسه.. لكي يكون الدين تسامحاً، وانفتاحاً على الحضارات الأخرى والأخذ منها بما يفيد المسلمين. والجهاد في العصر الحديث لابد أن يشمل العمل على محو أمية المواطنين، وتحسين أحوال معيشتهم، وتحقيق الرخاء والتقدم للوطن.. واكتساب السلطة لا يكون باستلابها بالقوة أو المخادعة، ولكن بالطرق المشروعة.. وأن علاقة المخلوق بخالقه من أمور الدين ولا يجوز للدولة التدخل فيها، وعلاقة المواطن بالسلطة من أمور السياسة التي تخضع لحكم القانون..


وكنا نشكو من الحكومة تفعل الكثير من أجل تنفيذ خطة كبيرة للتنمية.. ولكن التنمية لم تصل بعد إلى حد أن تصبح معركة المجتمع كله بكل رجل وامرأة.. وكل شيخ وشاب.


الإصلاح السياسي.. والإصلاح الديني.. وتكتل الكل من أجل إصلاح الاقتصاد وتطويره وزيادة الاستثمارات لكي يصبح الاقتصاد والإنتاج قادرين على المنافسة.. هذه القضايا الرئيسية هي الميادين التي ينبغي أن نوجه إليها مخزون القوة الذي تفجر.. والطاقة الروحية الهائلة التي سرت في المجتمع المصري.. وهذا واجبنا جميعاً.


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف