فلسفة القانــون الجديــد

حقق الرئيس مبارك للصحفيين أملهم فيه، فقد لجأوا إليه باعتباره أباً للديمقراطية، وراعياً للحرية، فجاء قراره تأكيداً لموقفه الثابت الذي لم يتذبذب طوال ثلاثة عشر عاماً، وهو الانحياز للحريات، وتأييد التوسع فيها، ومهما حدث من تجاوزات فإن علاجها يكون بالديمقراطية وليس بالعدوان عليها.. وأصبح على الصحفيين وأصحاب الرأي أن يقدموا أفكارهم واجتهاداتهم حول مشروع القانون الجديد، الذي سيكون بديلاً عن القانون 93 لسنة95 .


ولن تكون بداية البحث أمام اللجنة التي ستعد القانون الجديد من فراغ.. فهناك دراسات.. وحصيلة مناقشات في نقابة الصحفيين وفي المجلس الأعلى للصحافة يمكن الرجوع إليها والاستفادة منها، بالإضافة إلى رؤية أساتذة الصحافة والإعلام والرأي العام في كليات الإعلام، وأساتذة القانون الدستوري والجنائي المتخصصين في الفروع المتعلقة بالحريات والدراسات المقارنة عنها في قوانين الدول المتقدمة.


والبداية الصحيحة، قبل الشروع في إعداد القانون الجديد، أن نطرح للحوار الفلسفة التي سيقوم عليها هذا القانون.. فلكل قانون فلسفة تحدد الإطار العام له، وترسم اتجاه التشريع، وتوضح رؤية المشرع وأهدافه وهو يعكف على صياغة القانون.. هل ستكون الفلسفة هي إطلاق الحرية في الرأي بغير ضوابط، أم لابد من وجود ضوابط معينة تضمن أن يظل في نطاق الرأي ولا يتجاوزه إلى نطاق التشهير، أو الإساءة، أو القذف، أو غيرها من الجرائم المعروفة في سائر قوانين الدول الكبرى؟.. وهل سيسعى هذا القانون إلى الوصول إلى نقطة توازن عادلة بين الحرية والمسئولية.. أم سينحاز إلى الحرية على حساب المسئولية.. أم يشدد دائرة المسئولية بحيث تطغى على مساحة الحرية؟.. وهل يضع الشروط الواقعية التي تراعي طبيعة واعتبارات العمل الصحفي، أم سيتجاهلها لكي يضع شروطاً أخرى قد تتحول إلى قيود – غير مقصودة – تعرقل رسالة الصحافة، وتعوق أداءها لواجبها باعتبارها وسيلة إ علام، وجهاز إنذار مبكر، وصمام أمان للمجتمع كله.. تحذره في الوقت المناسب من مخاطر محتملة.. وتنبه إلى احتمالات الفساد أو الانحراف في أي صورة وفي أي موقع، وتقدم أفكاراً حرة لتطوير المجتمع وتحسين أداء الأجهزة.. سواء بالنقد.. أو بالتوجيه. كما تقوم الصحافة أيضاً بدور الرقابة على الأجهزة.. رقابة من نوع خاص.. وسيلتها هي إلقاء الضوء على ما تراه خطأ.. والتركيز على ما تراه صواباً.. وهي في النهاية وإن كانت سلطة رابعة إلا أنها سلطة شعبية لا تملك حق إصدار القرار من أي نوع.


وفي البحث عن فلسفة القانون الجديد أعتقد أنه من الضروري أن تتعرض اللجنة إلى فلسفة العقاب في القانون الجنائي المصري.. فقد اتجه التشريع في نصف القرن الأخير إلى تشديد العقوبات بشكل عام، وأهم من ذلك أنه اتجه إلى التوسع في اللجوء إلى العقوبات السالبة للحرية على مختلف الجرائم، حتى أصبح الحبس والسجن هما – تقريباً – أكثر وأهم العقوبات التي يعرفها القانون المصري.. سواء في جرائم القتل والسرقة والاختلاس.. أو في بعض مخالفات المرور.. أو في عدم تجديد رخصته.. أو بناء أدوار زائدة لعمارة..


ومع أن الاتجاه الحديث في التشريع العقابي في العالم المتقدم يلجأ إلى التقليل من الالتجاء إلى عقوبات الحبس والسجن، ويرى أن التوسع في عقوبات الغرامة والتعويض هو الأنسب في جرائم معينة، فإن الاستمرار في سياسة اللجوء إلى السجن والحبس في معظم الجرائم يحتاج إلى مراجعة..


كذلك فإن التشريع في مصر يضع القاضي في معظم الأحوال أمام خيارين لا ثالث لهما: إما العقوبة المشددة وإما البراءة، ونظراً لأن القاضي لا يحكم بالإدانة إلا إذا توافرت أمامه أدلة قاطعة عليها لا يداخلها أي شك، وأي شك لابد أن يفسره لصالح المتهم، فإن ضمير القاضي في أغلب الأحوال لا يطمئن إلى استحقاق المتهم لهذه العقوبة المشددة، فلا يجد أمامه إلا الحكم بالبراءة، بينما تتجه تشريعات الدول المتقدمة إلى إعطاء القاضي حرية أوسع في أن يقرر العقوبة المناسبة لكل حالة، في ضوء ظروفها الخاصة، وما يطمئن إليه ضميره.. وكلما كان مجال اختيار العقوبة أوسع أمام القاضي استطاع أن يحقق الحكمة من القانون وهي الردع والزجر، واستطاع في نفس الوقت أن يجد لكل فعل العقاب الذي يتناسب مع حجمه وآثاره ومدى توافر القصد الجنائي أو سوء النية فيه.


كذلك فإن البحث في فلسفة القانون الجديد يمكن أن يمتد إلى طريقة إعداده.. والدوائر التي ستشارك فيه بالرأي والمناقشة.. وذلك لكي نصل به إلى الصورة المثلى التي تحقق مصلحة المجتمع كله.. ومن الضروري أن يتضح في فلسفة هذا القانون أنه ليس قانوناً للصحفيين وحدهم.. ولكنه لأصحاب الرأي في جميع المواقع.. وأكثر من ذلك أنه قانون للمجتمع المصري كله.. فأفراد المجتمع إما أن يكونوا من أصحاب الرأي يطلبون لأنفسهم حماية القانون.. وإما أن يكونوا من أفراد المجتمع الذين يطلبون أيضاً لأنفسهم نفس الحماية وينبغي ألا تكون حماية حرية جانب على حساب حرية جانب آخر.. فكما أن استقامة المجتمع تتحقق بالتوازن بين السلطات.. والتوازن بين المسئوليات.. كذلك تتحقق بالتوازن بين الحريات.. وبذلك يتمتع الجميع بالحرية.. ولا يحرم منها أحد لصالح أحد.. ولا تنال طائفة منها أكثر مما يجب بحيث تجور على نصيب طائفة أو طوائف أخرى من المجتمع من حقها في الحرية .


وفي كل دول العالم قوانين تنظم شئون الصحافة والنشر وتحدد الإطار لممارسة حرية الرأي.. وفي كل هذه القوانين أحكام منضبطة تحدد الحقوق والواجبات.. وتحدد الخط المستقيم الذي يمثل الخروج عليه عدواناً على الآخرين أو عدواناً على المجتمع كله.. وتضع عقوبات لكل حالة من هذه الحالات.. ومن الضروري أن تكون هذه القوانين والدراسات الفقهية الخاصة بها تحت نظر اللجنة لكي تعمل على أن يكون القانون الجديد في السياق العام لقوانين الدول المتقدمة دون زيادة أو نقصان..


ولقد كانت الشكوى قديمة ومستمرة من كثرة التشريعات وتناثر الأحكام التي تنظم كل جانب في المجتمع في قوانين متعددة بحيث يصعب على المتخصص أن يحيط بها.. فضلاً عن أن الأصل أن المواطن العادي يجب أن يعرف معرفة كاملة كل القوانين لأنه هو المخاطب بها، وعليه تقع مسئولية الالتزام بما فيها من أمر ونهي، وعليه تقع العقوبة إذا لم ينفذها، ولا يقبل منه عذر بالجهل بالقانون، لأن العلم بالقانون علم مفترض.. وهذا يفرض علينا أن نجمع كل الأحكام التي تتعلق بالنشر والصحافة والصحفيين والرأي في هذا القانون الجديد، وأن يكون بسيطاً، واضحاً، محدداً، وبذلك نضمن له الحياة والفاعلية.. لأن القانون لا يجد الحياة إلا بمعرفة الناس له، وثقتهم فيه، وإيمانهم بجدواه، وإحساسهم بأنه يحقق مصالحهم ومصالح المجتمع، وأنه لا غنى عنه.. ونحن نريد للقانون الجديد أن يكون حياً.. وفعالاً.. في الضمائر.. والسلوك.. لكي يحقق أهدافه النبيلة..


.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف